* مقال كتبته في يوليو ٢٠٠٥
ثمة مستويان من التخاطب يمكن التمييز بينهما وملامحظتمها بسهولة، الأول هو التخاطب باستخدام اللغات المعروفة، كاللغة العربية مثلا، وهو أمر يعرفه الكل، ولكن لغة تخاطب أخرى تعتمد الصورة مصدرا للتواصل، وهي الأصعب في قرائتها وكتابتها، هذا التخاطب الغير لفظي هو ما نسمعه أحيانا كثيرة ودون وعي طوال اليوم، إنها تلك الرسائل التي ترسلها إعلانات الشارع التي نظنها جامدة ونحن ننظر إليها، لكنها تجمح داخل خيالنا وترسم فينا ما لا نحس، وتحرك فينا تلك الرغبة في الشراء أو أي رغبة أخرى تختبئ خلف الإعلان، ولا تقف المسألة عند هذا الحد بل تتعداه إلى ما هو أبعد وأخطر من هذا بكثير.
الحديث عن الصور وقرائتها حديث طويل ومعقد، لكن أحدى وجوهه المثيرة للإهتمام هي تلك الوجوه التي نرسمها لا إراديا حين تتسرب انفعالاتنا عبرها، ولنتذكر مقولة "جورج بيرنز" بأن التمثيل يعادل الصدق المزيف، لهذا فإن قراءة الانفعالات تعد إحدى أهم الركائز في صناعة التمثيل والأفلام والدعاية، وهو أمر نتفاوت فيه، وعموما فإنه في المتوسط فإن النساء أكثير تعبيرية وصراحة ووضوحا مقارنة بالرجال. وتوحي البحوث بأن الرجال أفضل في كتمانهم للانفعالات وكذلك فإنهم قارئين غير جيدين للانفعالات، وهذا قد يفسر الشكوى المتكررة من النساء بأن شركائهن الذكور لا يتواصلون معهن بشكل كاف، في حين نسمع من الذكور تلك الشكوى المقابلة بأن النساء يتوقعن منهم أن يكونوا قارئين لما يدور في عقولهن، كما يذكر جلين ويلسون في كتابه سيكولوجية فنون الأداء.
وعموما، فإن تلك الفوارق قد تكون هي ذاتها ما يدفع النساء للاندفاع نحو الأفلام العاطفية والرومانسية التي تفيض بكل ذلك الافتعال للانفعالات، في حين نرى الأغلبية من الرجال لا يميلون لذلك، بل يمليون لتلقي رسائل بصرية من نوع آخر كتلك التي تعج بها أفلام الأكشن والإثارة. وهذا ليس قاعدة عامة، بقدر ما هي محاولة لقراءة مدى التفاوت في قراءة الانفعالات ما يفضي إلى استنتاج تلك المغايرة في التلقي.
الأمر الآخر
الأمر الآخر في عملية صناعة الانفعالات هذه، هي عملية اكتشاف الأكاذيب، فإيكمان وفرايزن يذهبان للقول بأن الكذب قد يتم فضحه أو اكتشافه من خلال تلك الحركات غير الضرورية التي تقوم بها اليد تجاه الوجه، فحتى عندما تكون تعبيرات الوجه عادية ظاهريا فإن تحليل الحركة البطيئة للصور الفوتوغرافية الخاصة بالكاذبين أحيانا ما تكشف عن وجود تعبيرات قلق صغيرة سريعة التلاشي والزوال، تكون بمثابة الخيوط التي تقود إلى فضح الكاذب.
وعموما فإن الهاديات الأساسية التي يستخدمها الأفراد للحكم على حدوث الكذب كما يرى ديتورك وميلر تتمثل في: البطء في بدء الكلام، تحاشي التحديق، التغييرات الكثيرة الخاصة بأوضاع الجسم، الوقفات المؤقتة غير المكتملة في الكلام، الابتسام المختزل أو القصير، الكلام الأبطأ، ارتفاع درجة الصوت وحدوث أخطاء وعثرات في الكلام، وعموما فإن هنالك أيضا فروقا بين الشخصيات في القدرة على الخداع.
الانتاج السينمائي، يختصر هذا الجزء من المشهد، فلدى الممثلين دائما القدرة الكاملة على تصنع الانفعالات المطلوبة، ولديهم القدرة كذلك على ضبط إيقاع لغة الجسد حتى تكون أكثر قوة في تمثيلها للمشهد، أو بعبارة أخرى أكثر زيفا في صدقها. هذا على العكس من أولئك الكذابين المشهورين، تماما كما يروي جلين ويلسون في كتابه عن تلك الابتسامة الغير ملائمة على وجه طالب من ميدلاند ظهر في التلفزيون مستغيثا وطالبا المساعدة من أجل عودة آمنة لصديقته المفقودة، وهذه الابتسامة هي التي ستثبت بعد ذلك أنه هو الذي قتلها قبل المناشدة بأيام قلائل، وأخفى جثتها تحت ألواح أرضية شقتها في أوكسفورد. وكذلك فإنه خلال فضيحة ووترجيت، ذكر أن الخبراء قد استطاعوا أن يحددوا من خلال دراستهم للغة الجسد أن ليوند بريجنيف كان يكذب عندما رفع حاجبي عينيه، وأن إدوارد هيث كان يكذب عندما حك أذنه، وأن ريتشارد نيكسون كان يكذب عندما فتح فمه.
إلى ذلك فإن العديد من السياسين يحاولون كسب أصوات الناخبين عبر إخبارهم ما يريدون سماعه، وقدرتهم على الخداع هي المخزون الخاص الذي يتباهى بعضهم به كخبرة في السياسة، في حين أنه تباهٍ بالقدرة على السيطرة النسبية على المنطقة الخاصة بالتسرب أو الارتشاح غير اللفظي للانفعال.
وبين السينما والإعلان، وبين الكذابين والنصابين، وبين رجال السياسة والبرلمانيين، تتبعثر لغة الجسد والصورة، لتصبح قرائتها أكثر صعوبة في حين تصبح كتابتها أكثر سهولة بحسب ما تتجه إليه الأمور، ولكن محاولة صنع القارئ الذكي الذي يستطيع فهم أبعاد رسالة الصورة هي ما يجب التركيز والتأكيد عليه، وهذا الحديث الآنف لا يعدو كونه طرقا على باب من المعرفة لا يمكن بحال من الأحوال فهم أصواته، بقدر ما يهم أن يفتح باب المعرفة ذاك عالمه لإعادة تركيب قالب نمطي في تلقي خطاب الجسد والصورة.
تعليقات