*مقال نشرته في 2004
يختلف البشر، وهم بالقوة أو الفعل مختلفون، وهو اختلاف يقود إليه البديهي والأولي من العقل والمعرفة، اختلاف صحي يمثّل المحرّك البشري للمجتمعات والتاريخ البشري، ولا داعي للإيغال في إثبات أمر بدهي أوّلي، فيكون الأمر أشبه بالقول:
كأنّنا والماء من حولنا قومٌ جلوسٌ حولهم ماء.
وعموما فإن هذا الاختلاف، وما نتج عنه من تكون وتشكيل ذهني للآخر المختلف، كان دائما مدارا لإشكاليات وأحيانا جدليات حركت وشكّلت وجه التاريخي، فالحديث عن الاختلاف لا ينفك يرتبط بالحديث عن التسامح، وهو حديث يطول، والبداية لا بدّ أن تكون –برأيي – دائما هي الانطلاق من التسامح بوصفه الأرضية المشتركة لكل البشر، والتي لا يختلف عليها اثنان. فعلى الأقل لن نختلف أبدا أننا مختلفون، وهو ما يدفع دائما للقول : أنا أختلف عنك، لهذا قد أختلف معك، ولكن أبقى أختلف عليك.
هل يحتاج الحديث عن الاختلاف لطرح أسئلة غبية، كما هو الاختلاف؟ وما هي حدوده؟ وما هي علاقته بالتسامح؟ ولماذا الاختلاف؟ ربما كان بالإمكان تجاوز الحديث عن الاختلاف بهذه الصورة لو تجاوز الآخر المختلف الحديث عنها بنفس المقدار. ولكنّ هذا الآخر المختلف هو من حدّد اتجاه الحديث بقدر علاقة الفعل – رد الفعل، وكان دائما الآخر المُتخّيل أو الآخر المختلف هو ما حرّك ورسم العديد من التوجّهات البشرية.
نهاية التاريخ أم بدايته؟
يتجه المفكر الياباني الأصل ميشيل فوكوياما للحديث عن قطب أمريكي أوحد لا يمكن بمكان مجاراته، فهو كسائق العربة الذي قطع شوطا طويلا جدا لا يمكن أبدا اللحاق به، وفي كتابه ( نهاية التاريخ) يغرق في التوصيف للقطب ودول الهامش ويعود دائما لتكرار رؤيته والتأكيد عليها، ناسيا أو متناسيا أبسط السنن التاريخية البديهية من أن الأيام دولٌ بين الناس، وأن الحضارات تبدأ طفلا وتشبّ لتشيخ وتموت بعدها.
المهم في نظرة فوكوياما ليس تغاضيه عن السنن التاريخية الأولية فقط، بل توجهه للحديث عن القطب الأوحد بنظرة تلغي وتنفي وجود الآخر، وهذا النفي مقترن دائما وأبدا بحديث عن الواحد/الأوحد/الفرد، وهي ليست وحدانية إلهية يمكن تبريرها، ولكنها وحدانية بشرية لا يمكن بمكان التجاوز على أوليّات الاجتماع البشري حين طرحها، وعلى العموم، فإن نهاية التاريخ لدى فوكوياما تتجه على نحو ما نحو التخفيف من حدّة الاختلاف الحضاري – دون وعي من الكاتب ربما – لأنها تنفي الآخر بطرح التفوق والأوحد الأمريكي، لهذا فهي ضمنيا تخفف من هوّة الاختلاف.
إذا البداية بالاختلاف الحضاري التي تشكّل الوجه العالمي ليست بداية سيئة، بل تقدم نموذجا قويا لمدى ما يمكن أن يصل إليه الاختلاف في ترسيم ملامح هذا العالم.
الأمريكي الآخر ذو الأصول اليهودية، هو صمويل بي هانتجتون، أستاذ نظم الحكومات ومدير معهد جون إم أولين للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، الذي يقترن اسمه دائما بصراع الحضارات، وهو بعبارة أبسط ليس سوى تأكيد على الاختلاف الحضاري وتوسيع لهوّته بحيث يصل للصدام والصراع، وهي فكرة لاقت رواجا في الإدارة الأمريكية لأنها تبرر ميزانية أمريكا العسكرية، وتتناغم لحد كبير مع فكرة الحرب على الإرهاب، رغم أن الفكرة كانت أوّل ما طرحت مقالا في مجلة دولية في بداية التسعينات، ولكنّ هانتجتون اتجه فيما بعد لتوثيقها وتعميقها.
وفي كتابه (الإسلام والغرب ... آفاق الصدام) يتجه للحديث عن الصراع بين الحضارات والتي تشكل آخر مراحل تطوّر الصراع في العالم المعاصر، ويتجه لتكرار مقولة آزار بالمر عام 1793 " فقد انتهت الحروب بين الملوك وبدأت الحروب بين الشعوب"، فبعد مرور قرن ونصف القرن من الصراعات في العالم الغربي التي دارت إلى حد كبير بين الأمراء والأباطرة والملوك ذوي السلطة المطلقة والملوك الدستوريين الذين يحاولون تضخيم بيروقراطياتهم وجيوشهم وتعزيز قوة اقتصادهم المركنتلي والأهم من ذلك زيادة رقعة الأرض التي يحكمونها مما خلق – برأيه – الدول القومية، بدأت مرحلة الصراع بين الشعوب كما يقول آزار في القرن التاسع عشر، وبعد قيام الثورة الروسية وبما أثارته من ردود فعل أصبح الصراع أيديولوجيا، ولكنه ما لبث أن انحصر في الصراع بين الشيوعية والديمقراطية الليبرالية.
تلك نظرته، ولكنه وبعد أن يختفي هذا الآخر الروسي، سنجد هانتجتون يتجه للحديث عن آخر إسلامي، إذا هو ليس حديثا عن آخر روسي معادٍ بقدر ما هو حديث عن آخر يجب أن تكون مسافة الاختلاف معه واضحة جدا حتى يمكن الحديث عن الصدام والصراع. لهذا يتجه هانتجتون في كتابه للقول بأنه ومع انتهاء الحرب الباردة، خرجت السياسة الدولية من طورها الغربي وأصبح واسطة عقدها هو التفاعل بين الحضارات الغربية وغير الغربية.
وعموما، كانت المسألة دائما مسألة تبرير لميزانية عسكرية ضخمة، ومصانع عسكرية يجب أن تلاقي سوقا لمنتجاتها، لهذا بدأ الحديث عن خطر أخضر يشكله الإسلام، ويؤطر هذا الصراع في إطار صراع الحضارات، وهو صراع يمثّل ظلّ الاختلاف الذي يخاف منه، ففي الدنيا أناس كثيرون يخافون من ظلالهم.
أسطورة الإطار
هل صحيح أن هانتجتون أطّر الصراع في إطار صراع الحضارات؟ وهل كان هذا لخوفه من ظله، أو بمعنى آخر، لخوفه من الآخر المختلف الذي يشكّل بالضرورة الظل البشري؟ الفيلسوف كارل بوبر الذي رحل عن الدنيا يوم وُلدت نظرية هانتجتون تقريباً، أي عام 1994، يطرح في كتابه (أسطورة الإطار) صورة لرسالته الفكرية ودعائم فلسفته، وهي رؤية شكلت بحسب نظر البعض موجّها لفسلفة الفكر الغربي المعاصرة في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، وهو أحد المدافعين عن العلم والعقلانية.
تحت عنوان (أسطورة الإطار) يناقش بوبر حوار الحضارات، موضحا أن الصدام أو الالتقاء بين الحضارات المتباينة هو شريعة التاريخ والوجود البشري، على أن الالتقاء بين الحضارات يكون مثمرا ودافعا للتقدم إذا جرى بعقلية نقدية متفتحة، بينما يغدو صراعا مأساويا أو على الأقل سلبيا إذا جرى في أطر مغلقة، ويلفت بوبر الأنظار إلى أن الصدام الحضاري والثقافي يفقد قيمته حين تغيب عنه الروح النقدية الضرورية، ليحل محلها التسليم الأعمى العقيم بل المدمر، وذلك إذا اعتبرت إحدى الثقافات نفسها العليا بل العظمى والأكثر تفوقا، وكذلك إذا اعتبرها الآخرون هكذا، وأحس فريق بدونيتها.
وفي كتابه يعمل بوبر بالنقد على كل أشكال وتجليات الأطر المغلقة، حتى إن اتشحت بوشاح الحداثة، وعموما، فإن الاختلاف كان بداية التنظير لبوبر، يقول بوبر فصله الثاني من الكتاب الذي حمل عنوان الكتاب نفسه، مرددا ما قاله أفلاطون: "لا توجد أرضية مشتركة بين هؤلاء الذين يعتقدون هذا ، و أولئك الذين لا يعتقدون ، بل إنهم من منظور آرائهم لا بد بالضرورة أن يزدري كل فريق منهما الآخر " .
ليتجه بعدها للحديث أن "ثمة المبدأ القائل باستحالة التفاهم المتبادل بين الثقافات المختلفة ..ما أسميه (أسطورة الإطار) ..." ليصرح بعدها بالقول"أخشى أن أغلب قرائي الآن قد يعتقدون أيضا في هذه الأسطورة إما عن وعي أو لا وعي ". وملخص الأسطورة أن "المناقشة العقلانية مستحيلة ما لم يتقاسم المساهمون فيها إطارا مشتركا من الافتراضات الأساسية ، أو على الأقل ، ما لم يتفقوا على مثل هذا الإطار لكي تسير المناقشة" , وهي نظرة سائدة. ويعود للتبيان أنه "من المهم أن نفرق بين مثل هذا الإطار وبين بعض التوجهات التي تكون بالفعل شروطا أولية للنقاش، من قبيل الرغبة في الوصول إلى الصدق ، أو الاقتراب منه ، أو الاستعداد للتشارك في المشاكل ، أو تفهم أهداف و مشاكل آخرين سوانا".
فالحديث إذا عن أوليّات الاقتراب من الآخر، وليس دفعا للكلام نحو الحديث عن الحوار وآلياته وشروطه، ولكن محورية الاختلاف هي الأهم، فبوبر يعتقد "أن المساهمين إذا اتفقوا على كل النقاط فسوف تغدو المناقشة عقلية و هينة لينة على الرغم من أنها قد تكون مملة إلى حد .... و في مواجهة هذا سوف أدافع عن الدعوى المعارضة تماما ... لا يحتمل أن تكون المناقشة بين الذين يتقاسمون كثيرا من الآراء خصيبة مثمرة ، على الرغم من أنها قد تكون طلية لطيفة ، بين تكون المناقشة بين أطر واسعة الاختلاف خصيبة مثمرة إلى أقصى الحدود ، على الرغم من أنها قد تكون في بعض الأحيان عسيرة إلى أقصى الحدود ، و ربما لا تكون أبدا لطيفة ... على الرغم من أننا نستطيع أن نتعلم الاستمتاع بها".
و خلاصة كل هذا ، كما يثبت هذا الفيلسوف في موضوعه "في معظم الأحوال سوف تعتمد الخصوبة ... على الفجوة الأصيلة بين آراء المساهمين في المناقشة ، و كلما كانت الفجوة أوسع ، أمكن أن تكون المناقشة أخصب ".
هذا هو إطار بوبر، في حين أن مفكّرا آخر تحدّث عن حوار الحضارات، هو السيد محمّد خاتمي، رئيس جمهورية إيران الإسلامية الحالي، في فكرة تبنتها الأمم المتحدة، وعموما فإن حوار وصراع الحضارات ليس سوى الوجه الآخر لمسافة الاختلاف بين الحضارات وترسيم حدوده بين حوار أو صراع.
تعليقات