* مقال نشرته في يونيو ٢٠٠٥
الحديث عن التغيير أحيانا كثيرة لا يكون سوى تغييرا للحديث، لأننا تعودنا الرتابة في حياتنا وفي أشياء كثيرة مما نفعل، ترانا أحيانا ما نلجأ للحديث عن التغيير وضرورته وآلياته واستراتيجياته دون أن نتغير نحن، بل ونستمر في الحديث دون أن يتغير أي شيء.
تغص مجتمعاتنا على امتداد أيام وحقب بالكثير من الحديث والشعارات حول ضرورة التغيير وحول الوعود ثم الوعود بالتغيير، وحين تغص حناجر البسطاء بكل سفاسف الكلام، وحين تصل المجتمعات حدّ التخمة، تبدأ شرارات الانفجار بالاشتعال، وبذور الثورة بالنمو لنفرغ عبرها كل أحلام التغيير ونصب عبرها كل حمم السخط من الواقع الرتيب والمعاش، بكثير من اللاوعي بل وقد يجذبنا التيار نحو مراسي الشوفينية لنبدأ بالانغلاق والانكفاء على الذات من جديد، لتبدأ بعدها عوامل الهرم والتكلس الفكري بفرض رتابة جديدة، وهكذا تبدأ الدورة لتعود من جديد.
تصاحب عادة حركات التغيير جرعة من الأدبيات التي تجيء متوائمة مع كل الوعود بالتغيير بل وتدفع بالناس للحلم بما هو أبعد من ذلك، في علاقة هي أشبه بعلاقة العربة والحصان، فكثيرا ما تجد الثورة حصانا جامحا يجر من وراءه كل أدبيات التغيير حيث ما يشاء، وحين يأتي نص ما خارج هذه المنظومة فإنه يأتي نشازا أو كالمسافر الذي يقذف به باب العربة لحظة ما يفكر في محطة تختلف عن التي يتجه إليها الحصان.
في حين أن الأدبيات حينما تحاول أن تكون الحصان الموجه للثورة أو حركة التغيير، فإنها تفشل في تقمص دور الحصان فتبدو أشبه بالعربة التي توضع أمام الحصان، والعديد من شواهد التاريخ تدل على ذلك، فالأفكار وأدبيات التغيير لا تموت ولكنها تبقى مركونة على الرف بانتظار الظروف الموضوعية التي تصبح حاضنة لتفريخ هذه الأفكار من جديد، ما يبقي هذه الأفكار دائما وأبدا مقرونة بالواقع أو إرادة التغيير الذي كثيرا ما يكون جامحا في كعلاقة العربة بالحصان.
تعدد القراءات
إحدى المميزات التي تجعل فكرة الركون للأفكار المعلبة والمخزونة لعقود أمرا ممكنا هو تعدد القراءات، ما يسحتضر طرح أسئلة جديدة لنفس النصوص بما يفضي لإجابات جديدة، وهو ما يعطي النصوص مرونتها ويجعلها دائما وأبدا حية لكي تكون أدبيات تغيير جاهزة وفاعلة. المهم دائما أن هذه الأدبيات ما لم تعط الأمل بالتغيير فإن أحدا لن يلتفت إليها، وما يعطي هذه الأدبيات مكانتها هو قدرتها على احتواء المتلقي بلانهائية معانيها في الظاهر، ولكن ما ينبغي الالتفات إليه هنا هو أن لا بد من وجود حقيقة ثابتة لا تحتمل التأويل وهي الحقيقة التي تصنع التغيير الحقيقي.
الحروب الأولى التي كانت مع صدر الإسلام، كانت حروبا تتكأ على أنماط من التأويل التي اختار كل طرف أن يلجأ إليها، في محاولة أحيانا لتحقيق أغراض ما، وبعيدا عن محاولة تحديد الخاطئ من المصيب، فإن أنماطا أخرى من التأويلات للنصوص كانت جاهزة لتشكل وقودا لحركات أكثر تطرفا، انطلقت بهدف تغيير ما أرادت هذه الحركات أن تغيره. فبعد أن تكونت البذور الاجتماعية لنمو وبروز حركات التغيير، كانت هذه الأدبيات جاهزة وفاعلة بقوة بقدر ما أراد لها مستخدموها أن تكون. لا ينكر أن بعض حركات التغيير جائت منطلقة من أدبيات شكلت نواتها، ولكن هذا لا يناقض أن مجمل حركات التغيير استخدمت الأدبيات كوقود لا أكثر .
يبقى المجال مفتوحا لقياس مدى التنازع والتبادلية في العلاقة بين الأدبيات وحركات التغيير ومدى تأثير كل طرف على الآخر، بمعنى مدى قوة كل طرف وسيطرته على الآخر.
واقع ولا واقع
قصة تكررت كثيرا، ولكنها تمثل دائما أس معضلة الرتابة التي تكلّس في ذواتنا الكره لهذه المجتمعات، خصوصا وأن الآخرين يتقدمون دائما في حين نقف إذا لم نتراجع، تقول القصة أن خمسة قرود موضوعين في قفص، وعند تعليق حزمة موز في منتصف القفص ووضع سلم تحتها. فإنه وبعد مدة قصيرة ستجد أن قردا ما من المجموعة سيعتلي السلم محاولا الوصول إلى الموز. ما أن يضع يده على الموز، فإن شخصا ما في الخارج يطلق رشاشا من الماء البارد على القردة الأربعة الباقين ويرعبهم! بعد قليل سيحاول قرد آخر أن يعتلي نفس السلم ليصل إلى الموز، وبتكرار نفس العملية ورش القردة الباقين بالماء البارد، وبعد تكرار العملية لأكثر من مرة! فإنه وبعد فترة ستجد أنه ما أن يحاول أي قرد أن يعتلي السلم للوصول إلى الموز ستمنعه المجموعة خوفا من الماء البارد. الآن، وبعد إبعاد الماء البارد، يخرج قرد من الخمسة إلى خارج القفص، ويتم وضع مكانه قردا جديدا (اسمه سعدان) لم يعاصر ولم يشاهد رش الماء البارد. سرعان ما سيذهب سعدان إلى السلم لقطف الموز، حينها ستهب مجموعة القردة المرعوبة من الماء البارد لمنعه وستهاجمه. بعد أكثر من محاولة سيتعلم سعدان أنه إن حاول قطف الموز سينال توبيخا وضربا من باقي أفراد المجموعة! بعدها يخرج قردا آخر ممن عاصروا حوادث شر الماء البارد (غير سعدان)، وأدخل قردا جديدا عوضا عنه. ستجد أن نفس المشهد السابق سيتكرر من جديد. القرد الجديد يذهب إلى الموز، والقردة الباقية تنهال عليه ضربا لمنعه. بما فيهم سعدان على الرغم من أنه لم يعاصر رش الماء، ولا يدري لماذا ضربوه في السابق، كل ما هنالك أنه تعلم أن لمس الموز يعني ضربا على يد المجموعة. لذلك ستجده يشارك، ربما بحماس أكثر من غيره بكيل اللكمات والصفعات للقرد الجديد!وعند الاستمرار بتكرار نفس الموضوع، وإخراج قرد ممن عاصروا حوادث رش الماء، ووضع قردا جديدا، فإن نفس الموقف سيتكرر نفس. وعند تكرار هذا الأمر إلى أن تستبدل كل المجموعة القديمة ممن تعرضوا لرش الماء بقرود جديدة! فإنه في النهاية سنجد أن القردة ستستمر تنهال ضربا على كل من يجرؤ على الاقتراب من السلم. لماذا؟ لا أحد منهم يدري! لكن هذا ما وجدت المجموعة نفسها عليه منذ أن جاءت! هذه القصة ليست على سبيل الدعابة. وإنما هي من دروس علم الإدارة الحديثة. لينظر كل واحد منكم إلى مقر عمله وما يحيط بحياته. فكم من القوانين والإجراءات المطبقة، تطبق بنفس الطريقة وبنفس الأسلوب البيروقراطي غير المقنع منذ الأزل، ولا يجرؤ أحد على السؤال لماذا يا ترى تطبق بهذه الطريقة؟ بل سيجد أن الكثير ممن يعملون معه وعلى الرغم من أنهم لا يعلمون سبب تطبيقها بهذه الطريقة يستميتون في الدفاع عنها وإبقائها على حالها!
هذا الواقع هو ما يشكل البذرة لحركات التغيير، التي قد تكون فردية تتمثل في استياء الفرد عن كل ما حوله ومحاولته استبدال كل مفرداته الثقافية بمفردات أخرى لا ينتمي إليها ما يجعله يعيش في حالة من وهم السعادة، أو حركات التغيير الاجتماعية التي تكون عنيفة ومتكأة على انتقائية في النصوص أحيانا، أو على تعدد القراءت أحيانا أخرى، أو قد تكون صحيحة، ولكن الأهم أن الثقافة دائما هي من سيغير ومن سيتغير.
لهذا على الثقافة أن تخلق لذاته حركة نقد تمكنها من تجنب الركود والرتابة حتى لا نرى من ينسلخون من ذواتهم، ولكي لا نرى حركات تتمرد على كل ما تم إنجازه كما في الحركات اللامسئولة الخارجة على كل الأدبيات، وأولا وأخيرا فإن عدم واقعية الثقافة سوف لن يوصلها لأي مكان. فهل تعي الثقافة دورها المحوري، خصوصا في وجود أحدى مكوناتها، وهو الأدبيات التي قد تغير الثقافة بمجملها لتأتي بثقافة أخرى، في حركة مثيرة للاهتمام، حركة الجزأ التي تقتل الكل وتبدله.
تعليقات
دام نبضك وعطائك
نبض من عمان