التخطي إلى المحتوى الرئيسي

كوميديا دانتية و"لمبو" برائحة الكذب




* مقال نشرته 2005

صدرت للمرة الأولى الترجمة العربية الشعرية الكاملة لكتاب الكوميديا الإلهية، للشاعر الإيطالي دانتي الليغييري عن منشورات المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" في باريس والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. ونفذ الترجمة الشاعر والناقد العراقي-الفرنسي الجنسية- كاظم جهاد عن النص الأصلي الإيطالي وعن العديد من الترجمات الفرنسية لنص الكوميديا الإلهية المؤلف من 14233 بيتا شعريا موزعا على مقاطع ثلاثية ومجموعة في 100 نشيد قسمت إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم والمطهر والجنة.


وألحقت الترجمة بمئات الحواشي والشروح، كما ضمت مقدمة طويلة للمترجم تعتبر دراسة مستقلة بحد ذاتها.ويشدد كاظم جهاد في مقدمته على أن العالم العربي والإسلامي ليسا غريبين على الكوميديا الإلهية حتى وإن كان دانتي ينتمي للديانة المسيحية. ويشير إلى أنه كثيرا ما جرى ذكر التأثير العربي في الكوميديا الإلهية كما ينقل عن المؤرخين ذكرهم تردد دانتي على حلقة دراسات لتلامذة الفيلسوف ابن رشد.


ويتجه أليكسي جورافسكي في كتابه (الإسلام والمسيحية) للحديث عن تأثير الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى ليسرد التأثير على ميادين كثيرة، ومنها مجال الآداب وفنونها حيث تجري مجادلات عن المصادر العربية والإسلامية لإبداع دانتي.


دانتي إليجييري الذي عاش ما بين 1265 و1321، يعد أحد أعظم شعراء إيطاليا قاطبة، ومن مشاهير الأدب العالمي، وقد خلد اسمه بملحمته الشعرية العظيمة (الكوميديا الإلهية)، التي وصف فيها طبقات (الجحيم والمطهر والفردوس) في رحلة خيالية وذهني قام بها بقيادة فيرجيليوس وحبيبته بياتريس، وقد ترجمت (الكوميديا) إلى كثير من لغات العالم مرات عديدة، مرات عديدة في كل لغة. وفي القرن التاسع عشر وحده بلغ متوسط طبعات مؤلفات دانتي كاملة وجزئية والمقالات والبحوث في الدوريات المختلفة أكثر من 200 في العام، في إيطاليا والأراضي الناطقة بالإيطالية.

الجدل العربي-المسيحي


في 26 كانون الثاني- يناير سنة 1919، فجر أسين بلاثيوس قنبلة علمية كبرى، عندما تقدم ببحث استهلالي بمناسبة تعيينه عضوا في الأكاديمية الملكية الإسبانية عنوانه :(الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية) ونشر في مدريد في العام نفسه، وقد أثار هذا البحث الضخم هزة كبيرة في مختلف الأوساط العلمية في العالم كله، نظرا لخطورة المشكلة التي أثارها وهي تأثر دانتي بالتصورات الإسلامية للآخرة في رائعته الخالدة. وجاء نتيجة جهد علمي وبحوث مضنية دامت لأكثر من عشرين سنة متواصلة. وميجيل أسين بلاثيوس مستشرق إسباني اهتم بصفة خاصة بالتأثير والتأثيرات المتبادلة بين الأفكار والمفكرين والمذاهب العالمية والديانات التوحيدية. ويعد طودا شامخا من أطواد الاستشراق وبه رسخت أقدام البحث العلمي الممتاز في تاريخ الإسلام الروحي في إسبانيا.


وفي عام 1949 استؤنف النقاش مجددا حول هذه المسألة، حيث أصدر إنريكو تشيرولي، المستشرق الإيطالي وسفير بلاده في طهران، كتابا بعنوان (المعراج ومسألة المصادر العربية-الإسبانية للكوميديا الإلهية)، ولتدعيم رأيه في هذا المجال ضمّن تشيرولي كاتبه هذا الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة لأحد نماذج المعراج الإسلامي، الذي قام بترجمته عام 1264 من العربية إلى القشتالية إبراهيم الحكيم الطبيب اليهودي. وبذلك أيد تشيرولي فكرة بلاثيوس في احتمال نقل برونيتو لاتيني لدانتي معلومات تفصيلية من قصة الإسراء والمعراج.


ومحاولات الكشف عن الصلة المباشرة بين إبداع دانتي والتراث الإسلامي، أسفرت عن نتائج متضاربة وقلقة للغاية، حيث كان لكل طرف رأيه.


يقول الأب الأستاذ درة الحداد فيما يمكن أن يعد وجهة نظر مسيحية مثلا، يقول أنه "ومن أظهر الضلالات الرائجة – ويُنزلونها بمنزلة الوحي، أو أكثر – ضلالةُ القول بصلة دانتي بالمعرِّي، واقتباسه في كوميدياه الإلهية من رسالة الغفران وغيرها من الآثار الإسلامية. وبرغم أن الأديبة المصرية بنت الشاطئ قد دحضت تلك الأسطورة دحضًا قاطعًا فلا تنفك الفكرة بضاعةً رائجةَ السوقِ عندهم، حتى بين المفكرين أنفسهم". ويستطرد لينقل عن الأديب الياس غالي في كتابه الضخم دانتي ما بين المعرِّي وفرجيل الذي قضى نهائيًّا كما يرى الأب الحداد على تلك الخرافة الفظة.


ويذكر الأب أن "رسالة الغفران لأبي العلاء المعرِّي والكوميديا الإلهية لدانتي هما حديث الناس في كلِّ نادٍ. كلاهما ابتدع أسلوبًا في أمَّته، فكان مثال العبقرية. وما فطن أحد أن يجمع بينهما بصلة حتى قام المستشرق الإسباني ميغيل آسين بلاثيوس، فجعل رسالة الغفران، استنادًا إلى "المعراج النبوي"، مصدر إلهام الكوميديا الإلهية لدانتي. قال: "إن أصولاً إسلامية – من بينها الغفران – قد كوَّنتْ أسُسَ الكوميديا الإلهية، تلك القصيدة التي وَسَمَتْ كلَّ الثقافة الأوروبية المسيحية في العصور الوسطى." وتابعه على ذلك عدد من المستشرقين الذين يتودَّدون إلى المسلمين، مثل نلِّينو وتشيرُولِّي. وما كادت جماعة منِّا يعرفون هذا الرأي حتى أخذوا به، على علاَّته السقيمة، ليفاخروا به الناس".


ويعود فيستدل برأي ينقله عن الدكتورة بنت الشاطئ، السيدة عائشة عبد الرحمن، في تسفيه رأي بلاثيوس، والكشف عن غرضه -حسب رأيه- في قولها "وأما الهدف فهو أن يُطالِب لوطنه إسبانيا بهذا الفخر، إذ يجعل إيطاليا مديونةً لها بأمجد أثرٍ أدبيٍّ في العصور الوسطى... وإذا فلإسبانيا أن تعطى الحقَّ في المطالبة لمفكِّريها المسلمين بنصيبٍ غير قليل من الشهرة العالمية الواسعة التي تمتَّع بها العمل الخالد لدانتي أليجييري". ويذكر أن بنت الشاطئ استدركت فذكرت "ولعل هذا يدعونا إلى شيء من الحذر في وزن أدلَّته وتقويم عمله. فلا يستهوينا الزهو بما تدين لنا به أوروبا المسيحية، فنندفع وراء نظرية بلاثيوس مفتونين مسحورين."



الأثر الإسلامي وملحمة دانتي

ونعود فنستدرك بالقول أن بلاثيوس وتشيرولي قد أوردا من الحجج العلمية والأدلة ما يبرز أن آرائهما كانت علمية خارج دائرة الهوى والميل، ويذكر عبد الرحمن بدوي مثلا بأن ثمة مشابهات عديدة في التفاصيل بين كتاب "المعراج" الذي يشرح عروج الرسول محمد (ص) وبين "الكوميديا الإلهية" للشاعر العالمي الكبير دانتي، يذكر منها:


- دليل النبي (ص) هو جبريل الذي يريد أن يتولى ما كلفه الله به من مهمة "أن يرى النبي في هذه الليلة عجائب عظيمة من أسرار ملكوته وقدرته"، و"أن الله يحبه حباً جعله يريد له أن يرى كل أنواع الناس الذين يعيشون والذين ماتوا"، وهذا تماماً هو ما يقوله فرجيل لدانتي وهو يصحبه في أرجاء الجحيم في الأناشيد الأولى من "الجحيم".


- يلقى النبي في بدء رحلته إلى الآخرة ثلاثة "أصوات" تعترضه، فيفسرها جبريل له تفسيراً رمزياً، كما يفسر فرجيل لدانته الرمز الذي يدل عليه الذئب الذي لقيه في بدء رحلته في الجحيم.


ثم في أنواع العذاب، يذكر عبد الرحمن بدوي أننا نجد أن العذاب في الأرض الأولى من الجحيم ـ بحسب كتاب المعراج ـ هو "بالريح العقيم". وهي ريح قاسية عاصفة صرصر عاتية، كالمرأة العقيم التي لا تحمل ولا تشفق على أحد أبداً". وفي جحيم دانتي نجد "الريح الخبيثة" aer maligno و"الريح الجهنمية التي لا تسكن أبداً" هي عذاب المعذبين في الدائرة الثانية من الجحيم.
وعموما فإن اتشرولي يرد على الحجج التي وجهها خصوم أسين بلاثيوس بأن يقول "إن أوروبا الغربية في العصر الوسيط، خصوصاً بواسطة أسبانيا النصرانية، كانت على علم بالروايات الأخروية الإسلامية، علم إزداد غنى خصوصاً عند نهاية القرن الثالث عشر. والأخبار التي وصلت أو جمعت عن الاعتقادات الإسلامية المتعلقة بالآخرة كانت من التشويق والإمتاع إلى درجة أَنها ترجمت عدة مرات من لغة إلى أخرى من اللغات الشعبية أو إلى اللاتينية بحيث أمكن انتشارها انتشاراً واسعاً جداً لإشباع حب الاستطلاع الذي كان لدى القوم في الغرب بالنسبة إليها وينبغي أن ننوه في هذا الصدد بما بدأه الملك ألفونسو العاشر، الحكيم، ملك قشتالة الذي أمر بترجمة "كتاب المعراج" ترجمة كاملة إلى اللغة القشتالية (الأسبانية) واللاتينية والفرنسية, حيث يصف المعراج النبي محمد ورحلته إلى الآخرة. وهكذا عرف الغرب تصورات المسلمين للجنة والنار حوالي سنة 1260، بفضل إبراهام الحكيم وبونافنتور داسيينا".




دانتي والرسول الأعظم والإمام علي

موقف المسيحية في القرون الوسطى من الإسلام كما يرى جورافسكي، حددته محطتان رئيسيتان، أولاهما، ضرورة التعلم منه، كونه الأقوى والأعلم من جهة، وثانيتهما، التصارع معه كعقيدة غريبة ومعادية من جهة أخرى.


وإذا كان دانتي قد أفرد للفيلسوفيْن المسلميْن ابن سينا وابن رشد، مكانا في (اللمبو)، الذي هو ميناء جهنم أو المدخل إليها، وهو برأي دانتي مقر عظماء العالم القديم الذين ماتوا قبل ظهور المسيحية، ومقر من ماتوا ولم ينالوا التعميد المسيحي. فإن دانتي وضع نبي الإسلام محمد (ص) والإمام علي في الخندق التاسع من الحلقة الثامنة في الجحيم الدانتي، الذي يضم مثيري الصدامات والانشقاقات الدينية والسياسية، أي (الذين يزرعون الفتن فيحصدون الأوزار).


ويصور دانتي الإمام علي بجذع مقطوع الرأس لأن الإسلام في عهده انقسم إلى ثلاثة أجنحة متصارعة ومتعادية وبهذا يتحمل الإمام علي الورز كما يرى دانتي. ويستطرد دانتي في رسم عذاب النبي (ص) أو ما يسميه (موميتو) في ملحتمه، وابن عمه الإمام علي. فيرسم النبي (ص) في عقاب مثير للإشمئزاز من نمط فريد، فهو أبدا يقطع نصفين، مثل برميل تمزق أضلاعه، ويصف دانتي تفاصيل المشهد حتى أنه يستغرق في وصف أمعاء الرسول، ويجسد دانتي الإمام علي متقدما صف الآثمين الذين يشقهم الشيطان الحارس إلى نصفين، كما يطلب النبي محمد من دانتي أن يحذر رجلا اسمه (فرادوليشينو)، وهو قسيس مرتد دعا أصحابه إلى المشاركة الجماعية في النساء والممتلكات. ولهذا يقول إدوارد سعيد أن دانتي أراد أن يرسم عاملا مشتركا بين النبي محمد والمدعو فرادوليشينو وهو الشهوانية المقرفة وادعاء مكانة دينية بارزة.


هذا هو دانتي وتلك هي كوميدياه الإلهية، عالم من التبليج لنتاج أدبي ضخم، وصراع على المصدر، وتناص لا يمكن السكوت عليه، وتعد على الدين في نموذج صارخ لتصور الإسلام عن المسيحية في القرون الوسطى أو أولى الاتصال المسيحي-الإسلامي، وجدل لا يزال قائما حول الدور الحاضر-الغائب للتراث الأدبي والإسلامي، وأخيرا وليس آخرأ، اهتمام خارج كل الحدود بالأدب الدانتي حتى ما لا يعرف عنه سواه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أدبيات التغيير ... ثنائية العربة والحصان

* مقال نشرته في يونيو ٢٠٠٥ الحديث عن التغيير أحيانا كثيرة لا يكون سوى تغييرا للحديث، لأننا تعودنا الرتابة في حياتنا وفي أشياء كثيرة مما نفعل، ترانا أحيانا ما نلجأ للحديث عن التغيير وضرورته وآلياته واستراتيجياته دون أن نتغير نحن، بل ونستمر في الحديث دون أن يتغير أي شيء .  تغص مجتمعاتنا على امتداد أيام وحقب بالكثير من الحديث والشعارات حول ضرورة التغيير وحول الوعود ثم الوعود بالتغيير، وحين تغص حناجر البسطاء بكل سفاسف الكلام، وحين تصل المجتمعات حدّ التخمة، تبدأ شرارات الانفجار بالاشتعال، وبذور الثورة بالنمو لنفرغ عبرها كل أحلام التغيير ونصب عبرها كل حمم السخط من الواقع الرتيب والمعاش، بكثير من اللاوعي بل وقد يجذبنا التيار نحو مراسي الشوفينية لنبدأ بالانغلاق والانكفاء على الذات من جديد، لتبدأ بعدها عوامل الهرم والتكلس الفكري بفرض رتابة جديدة، وهكذا تبدأ الدورة لتعود من جديد .  تصاحب عادة حركات التغيير جرعة من الأدبيات التي تجيء متوائمة مع كل الوعود بالتغيير بل وتدفع بالناس للحلم بما هو أبعد من ذلك، في علاقة هي أشبه بعلاقة العربة والحصان، فكثيرا ما تجد الثورة حصانا جامحا يجر من وراءه كل

هكذا قرأت أمريكا

* كتبت هذا المقال في مارس ٢٠٠٥ وقد لا اتفق مع بعض تفاصيله الآن لكن أورده كما هو ....  حين قررت الذهاب في دورة مكثفة لدراسة ما يسمى ( بأمريكا ) لم أكن أعرف نهاية الطريق في هذه الرحلة ، و حاولت جاهدا و أنا أسمح لمركبي أن يمشي مع التيار أحيانا أن لا أفقد الاحساس بالاتجهاهات ، و حين أدعي أني كالبوصلة المفتوحة على جميع الاتجهاهات فهذا يعني أن عقلي معطل ، فالبوصلة التي تشير لكل الاتجهات بوصلة معطلة . هي محاولة للقراءة في شيء معقد و فعل القراءة هو أسمى فعل بشري .  ( اقرأ ) ، كانت أول كلمة تفوه بها الوحي و ظلت ترن في أطراف الجزيرة العربية منذ قيلت لليوم، و سبحان الله فكأنما كانت أول كلمة يتنزل بها الوحي تعطي مفاتيح الدنيا لمن يفتح قلبه و عقله لها . فمن لا يقرأ ليس حيا في هذه الدنيا ، و من لا يقرأ ليس مسلما حتى ، و كيف يكون مسلما وهو يعصي الله ( عز و جل ) في أول أمر يبلغه نبيه ؟ ثم ألا يستوعب الإنسان مقام هذا الأمر الإلهي حتى يستفتح به الله كلامه في أعظم معجزة و لأعظم بشر عرفه التأريخ ؟ و من هو في عظمة محمد ( ص ) يسشترف مسيرة النبوة الخاتمة باستقبال أول تكليف من رب العزة ( بالقراءة ) ، و