* مقال نشرته في حلقتين في 2004
بعد الحديث عن الاختلاف، في سرد لأهم الكتب التي تحدثت عنه، يدور الحديث حول التسامح بوصفه القيمة المسيّرة والمتحكمة في تحديد مساحة الاختلاف وحجمها، ولكنّ أسئلة بسيطة ومبدئية لا تنفكّ تطرح نفسها حين يتناول الإنسان هذا الموضوع، فما هو التسامح؟ ومتى نشأ؟ وهل هو قيمة ثقافية أو أخلاقية؟ وهل هو قيمة مطلقة أم نسبية؟ وعلى العموم فإن طرح الأسئلة كان دائما أسهل بكثير من طرح الإجابات، إلا أنه أحيانا، يكون السؤال أصعب بكثير من الإجابة، فالإجابات تكون في كثير من الأحيان موجودة، لكن الأسئلة كانت دائما خاطئة، فهل أسئلة التسامح خاطئة أيضا؟
البداية من سويسرا، حيث تعود الذاكرة للعام 1761كان الفيلسوف الفرنسي (فولتير) ملتجئاً إلى مدينة (فيرني) السويسرية بعد أن نجا بجلده من الملك فردريك الألماني ومنعه الملك الفرنسي من دخول الأراضي الفرنسية. وحتى يكون بمنأى من بطش الاثنين فقد استراح هناك. فإن طاردته الاستخبارات البروسية هرب إلى فرنسا وإن طلبه الجواسيس الفرنسيون هرب إلى ألمانيا. وكان في مدينة (تولوز) الفرنسية القريبة رجل يدعى (جان كالاس) بروتستانتي المذهب وله بنت اعتنقت الكثلكة. وفي يوم شنق ابنه نفسه بسبب الإحباط في سوق العمل. وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة ولا يسمح لأي بروتستانتي في تولوز أن يكون محامياً أو طبيباً صيدليا أو بقالاً أو بائع كتب أو طبّاعاً. ومُنِع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي. وفي يوم حُكِم على امرأة بغرامة قدرها ثلاثة آلاف فرنك لأنها استعانت بقابلة بروتستانتية.
ويقول ويل ديورانت صاحب كتاب (قصة الفلسفة) إن القوانين كانت تقضي في تلك الأيام "بأن يوضع جثمان المنتحر منكساً عارياً على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الأسفل ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة". ولكي يتجنب المدعو (كالاس) هذه الفضيحة فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول إن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقول إن الولد لم يشنق نفسه بل إن جان كالاس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل وبدأوا في تعذيبه حتى مات. وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعة على فولتير. ومن منفاه أطلق الرجل صيحته المعروفة "اسحقوا العار".
التسامح في الفلسفة
لا أعلم لماذا يشير الكلام لفولدر أحيان كثيرة حين يقترن ذكره بالتسامح، ولكن محمد عابد الجابري في كتابه (قضايا في الفكر المعاصر) يعلم، فالدكتور يبدأ بالحديث عن علاقة الفلسفة بالتسامح، بطرح سؤال مبدئي مفاده هل تقبل الفلسفة (التسامح) داخل مملكتها؟ مما يجر أسئلة أخرى مهمة كهل هناك فلسفة للتسامح؟ وإلى أي مدى يمكن توظيف مفهوم التسامح في التفكير فلسفيا في قضايا هذا العصر؟
في نقاشه للتسامح بين الفلسفة والدين والأيديولوجيا، يتجه الجابري للقول أن التسامح كان دائما مقوما أساسيا في مقومات التفلسف، لأن التسامح قيمة مقترنة بالاختلاف، الاختلاف الذي ينتج الشك المنهجي، وينأى بالمرء عن اليقين المذهبي، حيث يقف التسامح كنقطة فاصلة بين الفلسفة والإيديولوجيا، فالعابدي يتجه للقول أن الفلسفة التي تكف عن اعتماد التسامح موقفا فكريا وعمليا تفقد هويتها ومزيتها وتصبح شيئا آخر يسميه الأيديولوجيا.
ويتجه الجابري للقول أن التسامح ككلمة (Tolerance) ظهرت أول ما ظهرت في كتابات الفلاسفة وعلى حواشي الفلسفة في القرن السابع عشر الميلادي، زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، وهو ما تشير إليه القصة السالفة. وعموما فإن الجابري يذكر أن "فولتير، أشهر فلاسفة عصر الأنوار، كان ضد اضطهاد الأفكار والمعتقدات، ومن أقوى المنادين بحرية الفكر التي لا تحدها حدود" ومع ذلك فإن فولدير "جعل حدودا للتسامح لا يتعداها، عندما يتعلق الأمر بشؤون الدولة والسياسة"، وهذا لأن فولدير يقول بضرورة " حصر الوظائف العامة والمراتب الرفيقة في من يعتقدون بدين الدولة، لأنه كان يعتقد أن الدين ضروري لضبط الشعب"، ولهذا يذكر العابدي أن جون هرمان راندل لخص السألة بالقول:"كان عصر التنوير مستعدا للتسامح في أمر الاختلاف الديني، لا السياسي".
وبعيدا عن الحديث حول الأيديولوجية بمفهوم الجابري، فإن الجابري يقرّر أنه من الواضح أن مفهوم التسامح ولد في حظيرة الأيديولوجيا السياسية ليوظف توظيفا سياسيا أيديولوجيا، ضد السلطة أو معها، وهذا ما جعل كثيرا من المفكرين والفلاسفة يتحفظون إزاءه، بل ويهاجمونه أحيانا.
وعموما، يتجه الجابري لاحقا للقول توظيف التسامح في الدين والسياسة عبر التدقيق في معناها، ومن أجل إعادة بناء المفهوم، يتجه للمناداة بالعدل أولا، والتسامح كإيثار، ويطرح إشكالية مدى مواجهة اللاتسامح في عصرنا باستخدام التسامح، ويرى أهمية استخدام التسامح في الدين بمعنى عدم الغلو في الدين الواحد وسلوك سبيل اليسر، وأما سياسيا فالحديث عن التسامح لا ينفك عن الحديث عن نهاية التاريخ/الأيديولوجيا و صراع الحضارات التي يرى أنها تكرّس الفكر الأحادي والوحيد الحامل للواء العولمة على الصعيد الاقتصادي، وهي دعوة ترمي بشكل صريح لتعبئة الغرب كحضارة ، لا بل كمصالح –برأيه – ضد الحضارات الأخرى.
إذا، هو كلام حول الاختلاف، وحديث حول نشوء المصطلح، وترسيم للعلاقة بين الاختلاف والتسامح، وطرح للجزء االفلسفي والتاريخي لدى الجابري.
التسامح أم التساهل؟
سيّد عطاء الله مهاجراني، وزير الثقافة والفنون والآداب والصحافة والإرشاد الإسلامي في إيران، يطرح في كتابه (التسامح والعنف في الإسلام) متقطفات مختارة من أفكاره وآراءه، ويطرح في جزءه الثاني مناظرة تمثّل نموذجا جميلا في التعامل مع الاختلاف وترسيمه. والحديث عن مهاجراني ليس حديثا جديدا البتة.
النموذج كمنوذج يستدعي التوقّف طويلا، ولكنّ نقطة أخرى جديرة بالاهتمام هي التفريق بين التسامح والتساهل، فبحسب فإن الفيروزآبادي يقول في (القاموس المحيط): المساهلة كالمسامحة، تسامحوا تساهلوا، وتسامح:تساهل، وساهله:ياسره. ويشير ابن منظور في (لسان العرب) إلى التسامح والتساهل باعتبارهما مرادفين، ويعرف الحنفية السمحة بـ"ليس فيها ضيق ولا شدة"، وبهذا يخلص للقول "إن التساهل والتسامح واللين والرفق، المشار إليه تكرارا في تراثنا الديني، يوضح في الواقع رأيا وأسلوبا معينا في التعامل"، ومهاجراني يصرّح أنه "ممن يؤمنون بالتسامح والتساهل، كأسلوب وليس كمنهج". وعموما فإن طرح مهاجراني وأسلوبه وأمثلته ونماذجه التاريخية أسست لصورة تاريخية بالأدلة لمصادر ونماذج التسامح في تاريخنا الإسلامي، على أنه يجب الإشارة إلى أن البعض يعرف التساهل بانعدام الغيرة على الدين وهو تعريف يؤسس له بعض المفكرين، ومهاجراني في مقدمته يسرد رأي أحد أقطاب التنظير الديني ويناقش العلاقة بين التسامح والتساهل.
كاتبان إيرانيا آخران كانت لهما لمساتهما، فالدكتور علي شريعتي في كتابه (دين ضد الدين)، وسيد محمد صادق الحسيني، في كتابه (نحن والآخر) الذي شاركه فيه الدكتور غريغوار منصور مرشو، طرحا تنظيرا جميلا حول العلاقة بالآخر، علي شريعتي بأدبيته الجميلة يرسم ثنائية الدين والدين الآخر، والحسيني بجمال خطابه يطرح ثنائية نحن والآخر. وعموما فإن الحديث ليس تنظيرا للرؤية الدينية للتسامح ولكنه طرح لنماذج كانت لها إسهاماتها البارزة في طرح أفكار تستحق التأمل.
وأخيرا، فبين سمير الخليل وتوماس بالدوين وبيتر نيكولسون وكارل بوبر وألفريد آيير، جاء كتاب (التسامح بين شرق وغرب) ليطرح دراسات في التعايش والقبول بالآخر، وليتناول التسامح في اللغة العربية والتسامح كمثال أخلاقي، ويتطرق للتسامح والحق في الحرية، ويناقش التسامح والمسؤولية الفكرية، وليطرح بعدها منابع اللاتسامح.
لو تكن الدراسات مؤسّسة بشكل علمي قوي، وللكتاب طابعه الخاص، إلا أن المرور به حين الحديث عن الآخر والاختلاف حين التطرق لموضوع التسامح أمر لا بد منه، فالكتاب يمثّل إثراءا للمكتبة العربية التي تحتاج أن تؤسس لقيم التسامح والتعايش مع الآخر ما أمكن.
وفي محوري الاختلاف، والتسامح كانت الملامسة أقرب لطرح الرؤى المختلفة بنماذج من النتاج الفكري العربي، إلا أن نماذج غربية جديرة بالاهتمام والتحقيق أيضا، في سبيل نسج خيوط المشهد كاملة.
بعد الحديث عن الاختلاف، في سرد لأهم الكتب التي تحدثت عنه، يدور الحديث حول التسامح بوصفه القيمة المسيّرة والمتحكمة في تحديد مساحة الاختلاف وحجمها، ولكنّ أسئلة بسيطة ومبدئية لا تنفكّ تطرح نفسها حين يتناول الإنسان هذا الموضوع، فما هو التسامح؟ ومتى نشأ؟ وهل هو قيمة ثقافية أو أخلاقية؟ وهل هو قيمة مطلقة أم نسبية؟ وعلى العموم فإن طرح الأسئلة كان دائما أسهل بكثير من طرح الإجابات، إلا أنه أحيانا، يكون السؤال أصعب بكثير من الإجابة، فالإجابات تكون في كثير من الأحيان موجودة، لكن الأسئلة كانت دائما خاطئة، فهل أسئلة التسامح خاطئة أيضا؟
البداية من سويسرا، حيث تعود الذاكرة للعام 1761كان الفيلسوف الفرنسي (فولتير) ملتجئاً إلى مدينة (فيرني) السويسرية بعد أن نجا بجلده من الملك فردريك الألماني ومنعه الملك الفرنسي من دخول الأراضي الفرنسية. وحتى يكون بمنأى من بطش الاثنين فقد استراح هناك. فإن طاردته الاستخبارات البروسية هرب إلى فرنسا وإن طلبه الجواسيس الفرنسيون هرب إلى ألمانيا. وكان في مدينة (تولوز) الفرنسية القريبة رجل يدعى (جان كالاس) بروتستانتي المذهب وله بنت اعتنقت الكثلكة. وفي يوم شنق ابنه نفسه بسبب الإحباط في سوق العمل. وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة ولا يسمح لأي بروتستانتي في تولوز أن يكون محامياً أو طبيباً صيدليا أو بقالاً أو بائع كتب أو طبّاعاً. ومُنِع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي. وفي يوم حُكِم على امرأة بغرامة قدرها ثلاثة آلاف فرنك لأنها استعانت بقابلة بروتستانتية.
ويقول ويل ديورانت صاحب كتاب (قصة الفلسفة) إن القوانين كانت تقضي في تلك الأيام "بأن يوضع جثمان المنتحر منكساً عارياً على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الأسفل ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة". ولكي يتجنب المدعو (كالاس) هذه الفضيحة فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول إن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقول إن الولد لم يشنق نفسه بل إن جان كالاس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل وبدأوا في تعذيبه حتى مات. وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعة على فولتير. ومن منفاه أطلق الرجل صيحته المعروفة "اسحقوا العار".
التسامح في الفلسفة
لا أعلم لماذا يشير الكلام لفولدر أحيان كثيرة حين يقترن ذكره بالتسامح، ولكن محمد عابد الجابري في كتابه (قضايا في الفكر المعاصر) يعلم، فالدكتور يبدأ بالحديث عن علاقة الفلسفة بالتسامح، بطرح سؤال مبدئي مفاده هل تقبل الفلسفة (التسامح) داخل مملكتها؟ مما يجر أسئلة أخرى مهمة كهل هناك فلسفة للتسامح؟ وإلى أي مدى يمكن توظيف مفهوم التسامح في التفكير فلسفيا في قضايا هذا العصر؟
في نقاشه للتسامح بين الفلسفة والدين والأيديولوجيا، يتجه الجابري للقول أن التسامح كان دائما مقوما أساسيا في مقومات التفلسف، لأن التسامح قيمة مقترنة بالاختلاف، الاختلاف الذي ينتج الشك المنهجي، وينأى بالمرء عن اليقين المذهبي، حيث يقف التسامح كنقطة فاصلة بين الفلسفة والإيديولوجيا، فالعابدي يتجه للقول أن الفلسفة التي تكف عن اعتماد التسامح موقفا فكريا وعمليا تفقد هويتها ومزيتها وتصبح شيئا آخر يسميه الأيديولوجيا.
ويتجه الجابري للقول أن التسامح ككلمة (Tolerance) ظهرت أول ما ظهرت في كتابات الفلاسفة وعلى حواشي الفلسفة في القرن السابع عشر الميلادي، زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، وهو ما تشير إليه القصة السالفة. وعموما فإن الجابري يذكر أن "فولتير، أشهر فلاسفة عصر الأنوار، كان ضد اضطهاد الأفكار والمعتقدات، ومن أقوى المنادين بحرية الفكر التي لا تحدها حدود" ومع ذلك فإن فولدير "جعل حدودا للتسامح لا يتعداها، عندما يتعلق الأمر بشؤون الدولة والسياسة"، وهذا لأن فولدير يقول بضرورة " حصر الوظائف العامة والمراتب الرفيقة في من يعتقدون بدين الدولة، لأنه كان يعتقد أن الدين ضروري لضبط الشعب"، ولهذا يذكر العابدي أن جون هرمان راندل لخص السألة بالقول:"كان عصر التنوير مستعدا للتسامح في أمر الاختلاف الديني، لا السياسي".
وبعيدا عن الحديث حول الأيديولوجية بمفهوم الجابري، فإن الجابري يقرّر أنه من الواضح أن مفهوم التسامح ولد في حظيرة الأيديولوجيا السياسية ليوظف توظيفا سياسيا أيديولوجيا، ضد السلطة أو معها، وهذا ما جعل كثيرا من المفكرين والفلاسفة يتحفظون إزاءه، بل ويهاجمونه أحيانا.
وعموما، يتجه الجابري لاحقا للقول توظيف التسامح في الدين والسياسة عبر التدقيق في معناها، ومن أجل إعادة بناء المفهوم، يتجه للمناداة بالعدل أولا، والتسامح كإيثار، ويطرح إشكالية مدى مواجهة اللاتسامح في عصرنا باستخدام التسامح، ويرى أهمية استخدام التسامح في الدين بمعنى عدم الغلو في الدين الواحد وسلوك سبيل اليسر، وأما سياسيا فالحديث عن التسامح لا ينفك عن الحديث عن نهاية التاريخ/الأيديولوجيا و صراع الحضارات التي يرى أنها تكرّس الفكر الأحادي والوحيد الحامل للواء العولمة على الصعيد الاقتصادي، وهي دعوة ترمي بشكل صريح لتعبئة الغرب كحضارة ، لا بل كمصالح –برأيه – ضد الحضارات الأخرى.
إذا، هو كلام حول الاختلاف، وحديث حول نشوء المصطلح، وترسيم للعلاقة بين الاختلاف والتسامح، وطرح للجزء االفلسفي والتاريخي لدى الجابري.
التسامح أم التساهل؟
سيّد عطاء الله مهاجراني، وزير الثقافة والفنون والآداب والصحافة والإرشاد الإسلامي في إيران، يطرح في كتابه (التسامح والعنف في الإسلام) متقطفات مختارة من أفكاره وآراءه، ويطرح في جزءه الثاني مناظرة تمثّل نموذجا جميلا في التعامل مع الاختلاف وترسيمه. والحديث عن مهاجراني ليس حديثا جديدا البتة.
النموذج كمنوذج يستدعي التوقّف طويلا، ولكنّ نقطة أخرى جديرة بالاهتمام هي التفريق بين التسامح والتساهل، فبحسب فإن الفيروزآبادي يقول في (القاموس المحيط): المساهلة كالمسامحة، تسامحوا تساهلوا، وتسامح:تساهل، وساهله:ياسره. ويشير ابن منظور في (لسان العرب) إلى التسامح والتساهل باعتبارهما مرادفين، ويعرف الحنفية السمحة بـ"ليس فيها ضيق ولا شدة"، وبهذا يخلص للقول "إن التساهل والتسامح واللين والرفق، المشار إليه تكرارا في تراثنا الديني، يوضح في الواقع رأيا وأسلوبا معينا في التعامل"، ومهاجراني يصرّح أنه "ممن يؤمنون بالتسامح والتساهل، كأسلوب وليس كمنهج". وعموما فإن طرح مهاجراني وأسلوبه وأمثلته ونماذجه التاريخية أسست لصورة تاريخية بالأدلة لمصادر ونماذج التسامح في تاريخنا الإسلامي، على أنه يجب الإشارة إلى أن البعض يعرف التساهل بانعدام الغيرة على الدين وهو تعريف يؤسس له بعض المفكرين، ومهاجراني في مقدمته يسرد رأي أحد أقطاب التنظير الديني ويناقش العلاقة بين التسامح والتساهل.
كاتبان إيرانيا آخران كانت لهما لمساتهما، فالدكتور علي شريعتي في كتابه (دين ضد الدين)، وسيد محمد صادق الحسيني، في كتابه (نحن والآخر) الذي شاركه فيه الدكتور غريغوار منصور مرشو، طرحا تنظيرا جميلا حول العلاقة بالآخر، علي شريعتي بأدبيته الجميلة يرسم ثنائية الدين والدين الآخر، والحسيني بجمال خطابه يطرح ثنائية نحن والآخر. وعموما فإن الحديث ليس تنظيرا للرؤية الدينية للتسامح ولكنه طرح لنماذج كانت لها إسهاماتها البارزة في طرح أفكار تستحق التأمل.
وأخيرا، فبين سمير الخليل وتوماس بالدوين وبيتر نيكولسون وكارل بوبر وألفريد آيير، جاء كتاب (التسامح بين شرق وغرب) ليطرح دراسات في التعايش والقبول بالآخر، وليتناول التسامح في اللغة العربية والتسامح كمثال أخلاقي، ويتطرق للتسامح والحق في الحرية، ويناقش التسامح والمسؤولية الفكرية، وليطرح بعدها منابع اللاتسامح.
لو تكن الدراسات مؤسّسة بشكل علمي قوي، وللكتاب طابعه الخاص، إلا أن المرور به حين الحديث عن الآخر والاختلاف حين التطرق لموضوع التسامح أمر لا بد منه، فالكتاب يمثّل إثراءا للمكتبة العربية التي تحتاج أن تؤسس لقيم التسامح والتعايش مع الآخر ما أمكن.
وفي محوري الاختلاف، والتسامح كانت الملامسة أقرب لطرح الرؤى المختلفة بنماذج من النتاج الفكري العربي، إلا أن نماذج غربية جديرة بالاهتمام والتحقيق أيضا، في سبيل نسج خيوط المشهد كاملة.
تعليقات