* مقال نشرته 2005
تتناول السوسيولوجيا سبب تفاوت لهجات المناطق وطغيان واحدة على أخرى، وترجع ذلك فيما ترجعه للغة الأم دون الخروج عليها أو الانشقاق عنها، ولكن عوامل عدة تتقاطع داخل اللهجات المختلفة مما يسوق للبحث عن هذه العوامل المشتركة وبحث نسبتها أو علاقتها باللغة الأم، كقلب الكاف المكسورة حين مخاطبة المؤنث لشين ساكنة، وهي حال السواد الأعظم من أهل البحرين، وهذا يقتضي ضمنيا الحكم على توافقها أو خروجها على اللغة الفصحى، ذلك فيما يشبه رحلة تدفع عقارب الساعة للدوران بالعكس.
البداية بلغتنا العربية أمنا الرؤوم، فهي إحدى اللغات السامية. وهي واللغات السامية تشعبت من شجرة واحدة، فحين خرج الساميون من مهدهم لتكاثر عددهم اختلفت لغتهم الأولى بالاشتقاق والاختلاط، وزاد هذا الاختلاف انقطاع الصلة وتأثير البيئة وتراخي الزمن حتى أصبحت كلل لهجة منها لغة مستقلة. وكان سبق السامية ولغتنا العربية أن سادت اللغة الآرامية، ويذكر عبدالرحمن السليمان أن اللغة الآرامية هي لغة سامية عريقة كان لها حظ كبير من الانتشار الواسع قبل أن تحل العربية محلها بعد الفتوحات الإسلامية. وقد انتشرت الآرامية في بلاد الرافدين والشام انتشاراً واسعاً بعد سقوط الدولة الآشورية في القرن الخامس قبل الميلاد ودحرت كل اللغات المستعملة في العراق والشام وأصبحت اللغة المحكية فيهما وبقيت هكذا حتى انتشار العربية بعد البعثة. وتتوزع الآرامية على لهجات منها الآرامية الكتابية والسريانية،والكلدانية وهي اللهجة الآرامية التي كانت منتشرة في العراق ولا يزال أتباع الكنيسة الكلدانية يتكلمون بها، حيث تكتب هذه اللهجة بالخط السرياني المسمى بالاسترانجيلو، ويعتقد أن الممثلين في فيلم آلام المسيح اعتمدوا في نطقهم الكلمات الآرامية على نطق السريان أو الكلدان لها، وهذا أمر منطقي، لكن نطق السريان والكلدان اليوم مختلف عن نطق السيد المسيح للآرامية في زمانه.
ويقال إن أحبار اليهود هم أول من فطن إلى ما بين اللغات السامية من علاقة وكان ذلك في القرون الوسطى، ولكن المستشرقين من الأوروبيين هم الذين أثبتوا هذه العلاقة بالنصوص حتى جعلوها حقيقة علمية لا إبهام فيها ولا شك. وعموما فإن العلماء يردون اللغات السامية إلى الآرامية والكنعانية والعربية، كما يردُون اللغات الآرية إلى اللاتينية واليونانية والسنسكريتية. ويرى الباحثون أن الآرامية أصل الكلدانية والأشورية والسريانية ولهجات أخرى تتفرع من الآرامية، في حين تعد الكنعانية مصدر العبرانية والفينيقية، والعربية تشمل المضَرية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها قبائل اليمن والحبشة. والراجح في الرأي أن العربية أقرب المصادر الثلاثة إلى اللغة الأم، لأنها بانعزالها عن العالم سلمت مما أصاب غيرها من التطور والتَغير تبعاً لأحوال العمران.
وعموما فإنه من الصعوبة بمكان أن يتم تحديد أطوار النشأة الأولى للغة العربية، لأن التاريخ لم يسايرها إلا وهي في وفرة الشباب والنماء. والنصوص الحجرية التي أخرجت من بطون الجزيرة قليلة لما تزل لا تسمن ولا تغني من جوع، ويستدل على حدوث الأطوار في اللغة العربية بأدلة العقل والنقل، فإن العرب كانوا أميين لا تربطهم تجارة ولا إمارة ولا دين، فكان من الطبيعي أن ينشأ من ذلك ومن اختلاف الوضع والارتجال، ومن كثرة الحل والترحال، وتأثير الخلطة والاعتزال، اضطراب في اللغة كالترادف، واختلاف اللهجات في الإبدال والإعلال والبناء والإعراب، و هَنات المنطق كعجعجة قُضاعة، والعجعجة: قلب الياء جيما بعد العين وبعد الياء المشددة، مثل راعي يقولون فيها: راعج. وفي كرسي كرسج، وطمطمانية حِمْير، والطمطمانية: هي جعل إم بدل أل في التعريف، فيقولون في البر: أمبر، وفي الصيام أمصيام، وفحفحة هذيل، والفحفحة: هي جعل الحاء عيناً، مثل:أحل إليه فيقولون أعل إليه. وعنعنة تميم، والعنعنة: هي إبدال العين في الهمزة إذا وقعت في أول الكلمة، فيقولون في أمان: عمان. وكشكشة أسد، والكشكشة: جعل الكاف شيناً مثل : عليك فيقولونها: عليش. وقطْعةِ طيئ والقطعة: هي حذف آخر الكلمة، مثل قولهم: يا أبا الحسن، تصبح: يا أبا الحسا. وغير ذلك مما باعد بين الألسنة وأوشك أن يقسم اللغة إلى لغات لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها.
وقبل الوقوف على الكشكشة البحرانية اليوم، فإن لغات العرب على تعددها واختلافها إنما ترجع إلى لغتين أصليتين: لغة الشمال ولغة الجنوب. وبين اللغتين بون بعيد في الإعراب والضمائر وأحوال الاشتقاق والتصريف، حتى قال أبو عمرو بن العلاء:"ما لسان حِمْير بلساننا ولا لغتهم بغتنا". على أن اللغتين وإن اختلفتا لم تكن إحداهم بمعزل عن الأخرى، فإن القحطانيين جلوا عن ديارهم بعد سيل العرم الذي حدث 447 ميلادية كما يذكر غلازر الألماني، وتفرقوا في شمال الجزيرة واستطاعوا بما لهم من قوة، وبما كانوا عليه من رقي، أن يخضعوا العدنانيين لسلطانهم في العراق والشام، كما أخضعوهم من قبل لسلطانهم في اليمن. فكان إذن بين الشعبين اتصال سياسي وتجاري يقرب بين اللغتين في الألفاظ، ويجانس بين اللهجتين في المنطق، دون أن تتغلب إحداهما على الأخرى، لقوة القحطانيين من جهة، ولاعتصام العدنانيين بالصحراء من جهة أخرى. وتطاول الأمد على هذه الحال حتى القرن السادس للميلاد، فأخذت دولة الحميريين تزول وسلطانهم يزول بتغلب الأحباش على اليمن طوراً وتسلَط الفرس عليه طوراً آخر. وكان العدنانيون حينئذ على نقيض هؤلاء تتهيأ لهم أسباب النهضة والألفة والوحدة والاستقلال، بفضل الأسواق والحج، ومنافستهم للحميريين والفرس، واختلاطهم بالروم والحبشة من طريق الحرب والتجارة، ففرضوا لغتهم وأَدبهم على حِمْير الذليلة المغلوبة، ثم جاء الإسلام فساعد العوامل المتقدمة على محو اللهجات الجنوبية وذهاب القومية اليمنية، فاندثرت لغة حِمْير وآدابهم وأخبارهم حتى اليوم.
لم تتغلب لغات الشمال على لغات الجنوب فحسب ، وإنما استطاعت كذلك أن تبرأ مما جنته عليها الأمية الهمجية والبداوة من اضطراب المنطق واختلاف الدلالة وتعدد الوضع، فتغلبت منها لغة قريش على سائر اللغات لأسباب دينية واقتصاية واجتماعية.
عودا للكشكشة التي سادت اللهجات البحرانية، فإنما هي من المعلوم من لهجات العربية، بل ومما لا يخرج عنها، وإنما تفاوت بحرينيا لتفاوت اللهجات من منظور السوسيولوجيا، أي أن تسود لهجة على أخرى لعوامل اقتصادية أو اجتماعية، ولكنها تبقى عربية تشكل محطة في محطات تاريخ اللغة الفصحى، التي لا يمكن تجاوزها.
تعليقات