* مقال نشرته في مجلة القافلة (مايو - يونيو ٢٠٠٩)
لوهلة، تظن العالم العربي يعيش حالة من الملل القومي، فجموع الشباب العربي ما بين الخليج الهادر والمحيط الثائر تصنف لحظات كبيرة من حياتها تحت عنوان "الملل"، بل وتعتبره تذكرة مجانية للقيام بقائمة طويلة من "الحركات" الشبابية الغريبة. ولوهلة يعود صدى مصطفى الرفاعي متحسرا ليتردد "يقولون إن في شباب العرب شيخوخة الهمم والعزائم، فالشبان يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون، وإن اللهو قد خف بهم حتي ثقلب عليهم حياة الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت كالمستحيلات". ثم لوهلة أخيرة تستفيق لتسأل، هل صحيح أننا بعدما ملأنا حياتنا بالفراغ صرنا نعيش "وهم الامتلاء" بدل المشي الحثيث نحو حلم أكبر من "خديعة اللحظة" و"فخ الرتابة"؟ وما الذي يحركنا فعلا في حياتنا؟ هل خياراتنا وانجازاتنا قائمة على اتصال عميق مع الذات ومعرفة وثيقة بالقدرات وإيمان عميق بحلم أكبر؟ أم أننا لسنا أكثر من "تفاصيل" مسكونة بالآخرين؟ وهل يمكن الهروب من ذاكرة تسكنا نحو حلم نسكن فيه؟
لعل أولى الخطوات في الإجابة عن هذا كله هو تسجيلنا لاعتراف أنه من السهل الحياة مع الأسئلة بدل العيش مع الإجابات، وأننا أحيانا نحيط أنفسنا بسور من "الكذب المنطقي" الذي يسكّن ويخفف ألم الانفصال عن الحلم، ففي كل مرة نستمر في عمل الكثير من أعمالنا اليومية التي لا تتفق مع القناعات العميقة داخلنا نلجأ إلى "كذبة منطقية" لنتغاضى عن ألم الفشل. فعدم قراءة كتاب كنا نتوق لقرائته كان بسبب مقاطعة وتشتيت الآخرين لنا، والوصول لموعد متأخرين هو بسبب الازدحام الغير المتوقع أو بسبب النسيان. وعدم تحقيقنا للأحلام التي كنا نتمناها صغارا من أن نصبح مهندسين أو أطباء كان بسبب التعليم الذي أحبطنا، و"الواسطة" التي أحرقت فرصنا وعدم دعم وتقدير الأهل! ولكل فشل أو انفصال عن ما نؤمن به هناك قائمة تطول من المبررات، وحين لا تنجح هذه المسكنات، هناك "الملل" الذي نتنفسه في دخان "الشيشة" ونسمعه في أحاديث "القهاوي" ونقرأه في غرف الدردشة. كلها مسكنات أخرى تساعد في تخدير حواسنا وتعطيل عقارب الساعة ولو مؤقتا.
وحتى نستفيق من حالة "الملل القومي" الذي نعيشه، فإننا يجب أن ندرك أن أي شيء عدا الارتباط الواعي بما هو مهم، ليس أكثر من ارتباط لا واعي بأمور تافهة، أو بتعبير أفلاطون فإن الحياة التي لا نتفحصها حياة لا تستحق العيش. هناك دائما تلك الرغبة الدفينة عميقا في داخلنا لتحقيق طموح كبير، وهي رغبة لا تموت، لكن إذا ما أردنا فعلا أن نحولها لواقع لا بد من العمل على تغيير بعض تفاصيل حياتنا، فأحد تعريفات الغباء "هو القيام بنفس الأشياء بنفس الطريقة وتوقع نتائج مختلفة". لو توقفنا لثوانٍ وتسائلنا، ما هو الشيء –شيء واحد فقط- الذي لو قمنا به بصدق وبشكل مستمر فإنه سيغير كثيرا من حياتنا الشخصية والعائلية؟ وما هو ذلك النشاط الذي لو قمنا به بكفائة وبشكل متواصل فإنه سيغير من حياتك المهنية أو الدراسية بشكل هائل؟ وحين تجيب عن هذه التساؤلات يأتي السؤال الأخطر، إذا عرفت هذين الشيئين وكنت موقنا بهما، لماذا لا تقوم بفعلهما الآن؟ وهنا نعود لخزان "الكذب المنطقي" الذي نشرب منه كلما اظمأنا عطش الإنجاز. إحدى أكبر "الكذبات المنطقية" في حياتنا هي عدم وجود وقت كاف! فالكل يتعلل بأننا لو امتلكنا وقتا كافيا لكان بالإمكان إنجاز الكثير في حياتنا، ولكن المسألة ليست في إنجاز كم أكبر من المهام في وقت أقل، المسألة الأهم هي في القيام بالأمور الصحيحة وليس الثانوية، لهذا لا بد من العودة للسؤالين السابقين والإجابة عنهما بصدق.
التخلي عن أرشيف الكذبات المنطقية ومعرفة ما نريد هو أول خطوة نحو القضاء على حالة الملل القومي وتبديد وهم الامتلاء الذي نعيشه، ولكن ولأننا نعيش الواقع، فإن أمورا كثيرة ستستمر في تشويشنا وحرفنا عن ما نريد، ما يهم في هذا كله هو التأسيس لأهدافنا، بمعنى أن إيماننا العميق الذي يتكئ على الدين والثقافة والعائلة يجب أن يعيدنا دائما كلما فقدنا الإحساس بالاتجاه، ولأن الإحساس بالاتجاه مهم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل نملك بالفعل اتجاها واضحا في الحياة أم أننا لا نستطيع رؤية أبعد من عطلة نهاية الأسبوع؟ وبأبعد نظر فإننا لا نرى سوى الراتب في نهاية الشهر؟ كيف يمكن لنا أن نخلع ثوب الملل وأن نعيش الإنجاز إذا لم نعرف ما هو هذا الإنجاز؟ بل أحيانا كثيرة ما نبحث عن ذواتنا وطموحنا في مرايا الآخرين، فكل ما نفعله أو نختاره نقوم به بناءا على توقعات الآخرين، وحين نقع في هذا الشراك فإن الملل يتسلل سريعا إلينا، وسرعان ما سنتخلى عن أحلامنا لأنها ليست لنا في الأساس، وقد قيل بأن الإنسان فقد روحه يوم اكتشف المرآة. لهذا لا بد للحلم أن يمتد عميقا في جذور الإيمان والقيم حتي يكون ثابتا كلما اهتزت ذوتنا في خضم الحياة.
إحدى المقولات التى استمروا في إخبارنا بها، هي أن الأحلام التي نحملها في بداية حياتنا عن رغبتنا في أن نكون أطباء أو مخترعين هي "أحلام طفولة" وإذا ما عاشت هذه الأحلام قليلا فإنها "أحلام يقظة" سرعان ما تموت بذهاب سن المراهقة، وبرأيي فإن تلك أكبر "الكذبات المنطقية". تلك الأحلام هي ما يجب أن نتمسك به طيلة حياتنا، قد نغير قليلا في تفاصيلها بعد استيعابنا للحقائق حولنا لكننا يجب أن لا نتخلى عنها أبدا، فالمبدع ليس أكثر من طفل كبير، فلو تخيلنا طفلا قادرا على وصف خياله بالشعر مثلا، ألن يكون أكثر الشعراء إبداعا في تصويراته وخيالاته؟ ولو تخيلنا طفلا قادرا على رسم خياله في لوحة فنية، فإن كم الإبداع سيكون لا محدودا. وحين نحاول أن نتذكر تلك الأحلام، أو أحلام اليقظة التي راودتنا ونحن في بداية الشباب، فإننا في الأغلب لن نتذكر تحديدا تاريخ وفاة تلك الأحلام، لكننا سنعود مرة أخرى لقائمة المبررات لنختار منها واحدا نرفقه مع شهادة وفاة أحلامنا. تلك الأحلام التي نخرت فيها رتابة الحياة، وقتلها ضعف الهمة، ووأدها غياب الإيمان العميق بما نفعل، يمكن لها أن تولد من جديد بل وبملامح أجمل ونبض أقوى لو وقفنا لوهلة وتأملنا عميقا في ذواتنا، وحاولنا كسر "العادة"، لأن من أراد أن يمتلك الإرادة فعليه كسر "العادة"، لو فعلنا ذلك فإننا سنجد ذلك الوميض الذي يجعل من بشريتنا كينونة مختلفة عن كل الأشياء في هذا الكون، ولكسرنا حالة الملل التي نخرت كل مفاصل حياتنا، ولأنجزنا ما نفتخر به في حياتنا ولأضفنا شيئا جميلا على هذه الحياة، ولنتذكر دائما "إذا لم تزد شيئا على الحياة، كنت زائدا عليها".
تعليقات