نظر في عيني، واقترب حاجباه من بعضهما حدّ الالتقاء، كانت شجرة الصنوبر وسط باحة مربعة من مباني قوطية بيضاء، تتربع مثل ملكة أسطورية وهي تعزف حفيفاً لم يرتفع صوته كلما تقدّم بها العمر، وكانت المباني تفتح نوافذها لتنصت لتراتيل الربيع، وأنا خاشع يشاغبني خيالي ويعدو طفل الذاكرة في رأسي. كان شيء ساحر يشدّني لكل ما حولي قبل أن تباغتني رائحة العشب التي حملتها النسمات لأنفي، وسرعان ما أخرجني صوته وألقاني مرة أخرى بين حاجبيه الذين تباعدا قليلاً.
كنت في جنوب أفريقيا قبل أسبوع
حقاً؟ كيف كان الجو هناك؟
كانت إجابة سؤالي ابتسامة حاول دفنها تحت شفتيه. صمت لبرهة وغاب للحظات في ثمار الصنوبر الخشبية المتناثرة حولنا...:
أحيانا نخطئ في الأسئلة، وأنا لا أقصد سؤالك تحديدا. كل الأسئلة من حولنا تحتاج لصبرٍ بحجم شجرة الصنوبر هذه، ومن يملك الصبر هو من يملك الإجابة. وسأعود لأذكرك بحديثنا لأننا نسيناه كما يبدو.
كنت أستمع إليه وأنا غارق في جسر قديم فضحه سياج البوابة الحديدية، سحرني جماله وهو يمتد بين مبنين قديمين علي ضفتي النهر. كان عقلي يفكر في أسئلة غبية، فكل ما حولني يجرني بعيدا عن الجالس جنبي. لاحظ شرود عيني فقال مبتسما:
أوه، خطفك الجسر إذاً، هذا الجسر مشابه في شكله تماما لآخر في البندقية، كلاهما بسقف ومغطى بالكامل وتلاحظ كيف أن النوافذ المسيّجة بقضبان الحديد تعود لمئات السنين. جسر البندقية كان يربط بين السجن وقاعة الإعدام، وكان آخر منظر يراه السجين وهو يتجه للنهاية، ولك أن تتخيل كمية الأحلام التي غرقت في أنهار البندقية، ولكن هذا الجسر هنا في كامبردج -وابتسم لبرهة- يربط بين مبنى المحاضرات وبين قاعة الامتحان
وهنا انفجر كلانا ضاحكاً، ثم صمتنا ولكنه سرعان ما أكمل
ما تحتاجون إليه في بلدك قد لا يكون الحديث وضوضاء الأسئلة، أحيانا كل ما نحتاجه هو أن نكون في نفس القاعة صامتين، تماما مثل عاشقين طاعنين في السن جمعتهما قهوة الصباح وعقود من الغرام، فجلسا وسط صمت مريح. الصمت المريح هو ما تحتاجونه. احياناً يطاردنا الماضي، ومهما حاولنا الهروب والابتعاد عنه، يجدنا ويجهز علينا دون رحمة، ولكن ببعضٍ من الصمت يربض ذلك الماضي عند طرف القدمين قريباً وقريباً جداً لكنه لا يطالنا.
لم أستوعب فكرته، فمن حيث جئت، يأكل الخوف أصابع الأرض، وتمطرُ السماء الغضب وتغصّ الغيوم بالدموع. هذا الجالس أمامي كتلة من الكلام الجميل الغير مفهوم. ولولا سحر المكان كنت غادرت. وباغتتني نسمة هواء باردة أرسلت في ذراعي العاريين حرابا من الألم الجميل، كم سأشتاق إليه قريباً.
أخبرتك أنني عدت للتو من جنوب أفريقيا، وكنت في محاكمة ربما تعني لك بعض تفاصيلها شيئا، وسبب حضوري أنني عضو في لجنة المصالحة هناك
الحاحه في سرد قصته يرسل داخلي موجات من الغثيان، وكل القصص غيبوبة لذيذة تستفيق منها حين يقرر ساردها الدخول بك في جدار الاسمنت، ارتطام لجزء من الثانية يكفي ليكسر الجدار أو يكسرك، فج
كنت جالسا في المحكمة، وقبالي جلست هذه العجوز الطاعنة في السن، كانت في العقد السابع من عمرها، وهي تدلي بشادتها، ولأنني في لجنة المصالحة كما أخبرتك كنت حاضرا. في الطرف الآخر كان يجلس رجل بارد الملامح، بالرغم أن وجهه خالٍ من التعابير وكأن الزمن لم يمر أبداً لا في عينيه ولا في جبينه، كان جالسا في اعتداد وبدأ يحرك طرف اصبعه في الوقت التي بدأت فيه السيدة الكلام.
صمت للحظة، وكانت الرياح تداعب خلصات شعره الانجليزي الأبيض، وكنت أنا الفراشات الغافية على قميصه...
كم أتمنى ان تستطيع رؤية عيني تلك السيدة، عيون صغيرة تأكلها سمرة وجهها المتفحم، وتشتعل بشيء لم أفهمه، تعرف أني أقرأ الناس في عيونهم وفي جباههم، ولكني كنت أقف عاجزا أمام ناظريها، لأول مرة أحس بأرجل فراستي تتقلص وتتلاشى مثل الرمل في شفتي الرياح. وبدأت السيدة الحديث بصوتها المتقطع، وكانت الكلمات تتهادى في فمها ببطء، فالزمن لم يكن شفيقا عليها كما هو واضح. كان جميع من في القاعة ينظر إلى يدها المرتعشة وهي تشير للسيد في طرف القاعة .
هذا هو يا حضرة القاضي، كنت في كوخي مع زوجي وابني حين طرق الباب، وفي اللحظة التي فتحنا فيها الباب انهال على زوجي بعقب بندقيته ليغرقه في حمام من الدم وتبعه من معه من الشرطة، وكان هذا ... ورفعت يدها المرتجفة مجددا ... هو من يأمرهم لهذا أظنه قائدهم. وتوجه لابني ووضع المسدس جنب رأسه وصوت واحد كان يكفي لتفور دمائه على حيطان كوخنا الخشبية، وهي لا تزال هناك فقلبي لم يطاوعني على مسحها، ولا زلت أحضن تلك الحيطان كلما اشتقت لابني.
نظرت لعيني كريس التي بدت ضعيفة وعارية كعيون طفل، فحديثه عن تلك السيدة كان أقوى مما يتحمل، وسألته كعادة اسئلتي الغبية، هل هذه قصة حقيقية؟
نعم، أعرف أن ثمة هذه الحقول الشاسعة من السرد والتي يضيع فيها طعم الحقيقة، ولكنني خبرك الحقيقة فقط. الحقيقة التي كانت ترويها تلك السيدة كما أعيشها الآن. والحقيقه التي استمرت تلك السيدة في سردها...
بعد أسبوع عاد نفس الشخص ومعه بقية الشرطة، وهذه المرة أخذوا زوجي، وبقيت أبكي وأحضن دماء ابني لأيام وكان قلبي يخبرني أنهم قتلوه حتما، ولكنني كنت مخطأة، فقد جائوا بعد عدة أيام واقتادوني عنوة لداخل الغابة، وهناك رأيت زوجي مقيدا وهو ملقي على الأرض، لم تمنعني حالته من الشعور بشيء من الفرح، فيكفيني أنه حي وأنني استنشق بعضا من الهواء الذي تنفسه. وعندها بدأ الجنود في الضحك وهم يسكبون البنزين عليه ليشعلوه، وأحرقوه حياً أمامي.
كان الزمن متوقفا يا إبراهيم، لم تتحرك عقاربه ولم تنقص أو تزد ثوانيه. كان الزمن جاثيا علي ركبتيه يصغي للسيدة، وأظنه مثلنا كان يحبس الدموع.
لم أستطع منع دمعة من الانسياب من عيني، ولكنني كنت ألاحق كريس بنظراتي، كنت أرى المحكمة وكل تفاصيل القصة في عينيه، وكنت أسمع الصمت وأرى التنهدات وأشم رائحة الغضب والحقد التي بدأت تنطلق بشراسة نحو الشرطي الجالس..
سألها القاضي ولماذا برأيك فعلوا هذا؟ أجابته بعد ان لملمت باقي كبيريائها... صدقني لا أعلم... سمعت بعض جيرانينا يتحدثون عن رغبة البيض في طردنا من الأرض من أجل مشروع ما، ولا أعلم ما إذا كان ذلك صحيحاً. ما أعرفه يا حضرة القاضي أن الأرض كانت دائما هي التي تملكنا، وحين أتى السيد الأبيض بدأ الناس يملكون الأرض! سألها القاضي، وما هو القصاص الذي تطلبين؟
أجابته، عندي ثلاث طلبات .. أولاً أن يأخذوني للغابة لعلي أجد بعد رماد زوجي لأقيم جنازة تليق به. وطلبي الثاني أن يكون الشرطي ابني، ولا تستغرب يا سيدي، فقد سامحت هذا الرجل وعندي من الحنان ما يكتم أنفاسي حين أحاول النوم، وحضن الجدار بارد يقتلني، لهذا أريد أن أعطي هذا الشاب بعض الحنان. وأخيرا أتمنى من أحدكم أن يقودني عبر قاعة المحكمة لأصافح هذا الشاب وأحضنه الآن... وهنا فقد الرجل الوعي.
سألته مرة أخرى: هل هذه قصة حقيقية؟
نظر في عيني مباشرة: بماذا تخبرك هذه العيون؟
تعليقات