يومها، لم تحمل الريح أيّ صوت، وكأنّ العالم دخل في لحظة سكون لأوّل مرة منذ نشأته. الريح سيدة الضوضاء، ورسول كلّ الأصوات، هكذا أُريد لها أن تكون، وهكذا كانت حتى لحظة وقوع الحادث، نهشتها الحيرة حتى سهت عن نقل أي صوت، كان كل ما في يدها صوت حربش الصغير وهو ينازع منادياً أباه. بقيت الريح ساكنة مكانها فهي تعلم أن حربش هالكٌ لا محاله، ولكن كيف توصل تلك الأنّات إلى إيريس الذي سيلومها لإيصال استغاثة ابنته متأخره، لا يملك إيريس عقلاً يفكّر، ولا قلباً يحسّ، هو كتلة كراهية فقط.
إيريس نصّب نفسه إلهً للخلاف والنزاع، كان يثير الغيرة والحسد لينشر القتال والغضب بين الناس. حين وزّعت الملائكة الأقاليم السبعة لم يحصل إيريس على شيء، فغضب بسبب ذلك ولجأ للشيطان الذي منحه سيادة "الغضب"، وبهذه القوّة نصّب نفسه إلهاً وأعلن أنّ ذاته مقدّسة لا تُمس. وإمعاناً في استبداده، طلب إيريس من الشيطان أرضاً يحكمها فمنحه جزيرة صغيرةً يتحكّم في رقاب أهلها. خلق إيريس جيشاً من خفافيش الظلام يرعبون أهل الجزيرة، فالرعب حاكم القلوب الخائفة.
بقيت الريح في حيرةٍ من أمرها، كيف تخبر إيريس بمصرع ابنه؟ حملت جزءاً من قميص حربش الملطخ بالدم وألقته في حضن إيريس وهربت. حين رأى إيريس القميص ثار، خرجت من رأسه أفاعي الغضب متراقصة في جنون، وبانت براكين الألم في عينيه المحمرّتين، ارتجفت يداه وهو ينشر القميص أمام عينيه، ظلّ يزفر لثلاث ليالٍ متواصلة، يقوم ويقعد فوق عرشه المذهّب لمراتٍ ومرات. وفي الليلة الرابعة أمر بفتح باب العزاء في مصيبة ابنه حربش.
وجد أهالي الجزيرة أنفسهم مجبورين على تعزية إيريس، فغصبه وحقده فاق كل الحدود بمصرع ابنه، ولكنهم احتاروا بماذا يعزونه؟ بعضهم قال "نخبره أن البقاء للرب"، فقالوا "إيريس يكره الرب، بل يكره البقاء حتى". قال أحدهم "قولوا له عظّم الرب أجرك"، فرد آخر "عن أي أجر تتحدث؟ إيريس يستلم أجره نقداً من الشيطان، سيرى في كلامك استهزاءا". الكلام حمّال أوجه، لا يهم ما تعنيه بقدر ما يفهمه الآخرون، له تدفّق معاني لا نهائية، تخلقه نقطة مبهمة بين الوعي واللاوعي، وأمام إيريس حتى كامل الوعي لا ينجو، فثمة حتماً كلمةٌ تشي لديه بالحقد، كيف لا وهو المسكون بالحقد. قال لهم شيخ حكيم "ادخلوا عليه متفرقين، وقولوا عبارات شتى، يحبّ أن يراكم متفرقين، واختلاف كلامكم يشفي بعض غليل حقده، علّ في ذلك نجاتكم"، وكان ما رأى الشيخ.
تجمعوا ذات مساء، كانوا خمسة شبانٍ متحلّقين حول موقدٍ صغيرٍ، تضاعف حقد إيريس مرتين منذ رحيل حربش، فتحدثوا عن سأمهم لواقعٍ لم يعد يطاق، وفكرا أنهم ربما يستطيعون الخروج من الجزيرة سباحةً هرباً لعالم أجمل لم يروه بعد. سمعتهم خفافيش الظلام صدفةً فهاجمتهم على حين غفلة، مئات الخفافيش أحاطت بهم تمصّ دمائهم، تخدش وجوههم، تنهش في اللحم وتعيد نهش اللحم الميّت. نزعت بعض الخفافيش عظمة ساقِ أحد الشبّان ونزعت عنها اللحم بمخالبها واستمرت في عضها لساعات تشفيّاً وانتقاماً.
حين حملوا الشاب القتيل لأمه، حملوه بقايا ليس فيها ملامح، قلب الأمّ فقط عرف بأنه ابنها. حرص إيريس على أن يرى تلك اللحظة، ففي ذلك نشوةٌ لا يعرفها سواه. تخيّل المشهد في ذهنه، رسمه بكل تفاصيله واستمتع به، أعاد رسم تفاصيله مرة أخرى وأمعن في تخيل إذلال الأم، وظلّ يعيده حتى انتشى. وحين حانت ساعة الحقيقة، رسمت الأم ابتسامة الرضا على شفتيها، وتمتمت بكلماتٍ لم تحملها الريح خوفا من انتقام إيريس.
اشتعل غضب إيريس ليلتها، لم يستطع النوم، توالد غضبه كقطيع ضباعٍ مسعورة، فكأن الضبع يشتدّ حقده فيأكل الضبع الذي جنبه، حتى أصبح رأس إيريس قطيع ضباعٍ تتوالد دون توقف، ويأكل بعضها بعضاً دون رحمة. علم إيريس أن الريح لا تنقل له كلّ ما يحدث، وظنّ أن أم الشاب القتيل ربّما نطقت ببضع كلمات منكسرة، فكيف لها أن تتحمّل رؤية ابنها أشلاءً دون أن تنكسر، كيف؟ ربما هو غرورها وكبرياؤها أمام الناس؟
تنكّر إيريس في صورة متسوّل عجوزٍ وطرق بابها ذات مساء، هو يعلم أن الليل يباغت المفجوعين ويسرق منهم الانكسار، وكان انكسارها كلّ ما يريد رؤيته. طرق بابها فردت عليه بصوت متقطع من بين فتحات الباب المتهالك: "من؟"
- فقيرٌ يسأل، وقاكم الربّ ذل السؤال.
- سامحنا، ليس في المنزل ما نعطيك، جارتنا في المنزل الثالث على يمينك تأتيني كل يوم بما يسدّ جوعي في الصباح، اقصد بابها فلا أظنها تردّك.
- برد الليل ربما لا يمهلني حتى الصباح، فهذه الأسمال البالية تحيك بخيوط البرد كفني منذ أيام.
- لحظة واحدة.
ابتعد شبح العجوز عن الباب، بينما أحسّ إيريس بنسمة غرور تداعب جبينه، ها هي اللحظة التي يباغت فيها هذه السيدة العجوز بما سيكسرها، قميص ابنها سيفتح باب جحيم المشاعر أمامها، تلك اللحظة التي سيخطف فيها قلبها إلى عذابٍ لا يتوقف.
عادت العجوز ومدت يدها المرتجفة بعد أن فتحت الباب ليهرب خيط رفيع من النور الشاحب من منزلها:
- هذا قميص ابني، قتله أبناء الحرام ولم يتركوا له من أثر سوى هذا القميص، خذه علّه يدفع عنك برد هذا الليل.
فارت دماء إيريس، صوتها الوقور والمطمئن أخرج من أعماقه زفرة حقدٍ بدأت تشعل كل أطرافه، تصنّع الهدوء وباغتها بطعنة أخرى:
- هل عندك قميص غيره؟ يبدو لي أن هذا القميص رقيق وسيستسلم للبرد.
- كان لدى ولدي قميصين، تمزق الذي كان يرتديه ليلة مقتله، جدلت ما تبقى منه خيطاً رفيعاً وضعته حول معصمي، وبقي هذا القميص الذي في يدي، كلما اشتقت لابني حضنت القميص وشممته. اعذر حديثي، لم أقصد أن أشعرك بالذنب، ولدي سيكون مسروراً، طالما أحبّ الخير لكل الناس.
- سمعت عن حادثته، سمعت عن بشاعة الموت الذي ذاقه، ألست غاضبة من الذين خدعوه؟
- لا، أبداً، أنا مؤمنة به وبكلّ ما مات من أجله. كان يخبرني دائما عن حلمٍ يراه في الليل، كأن مخالبَ سوداء تمتدّ لقلبه لتنزعه، كان يصف لي الألم الذي يحسّ بهم وهم يقتلعون قلبه، ثم يخبرني عن هالة الضوء العذبة التي يدخل فيها. علمت أنه سيموت، وأن روحه ستنغمر بالطهر والسكينة.
تنهدت بصوتٍ خافت وأردفت: راضية عليك يا حبيبي، سامح أمّك التي لم توسّد رأسك في حجرها وأنت تنازع، سامح أمّك التي لم تمسح الدم والغبار عن وجهك الجميل، نبض أمّك أنت يا حبيبي.
أصبحت التنهدات أسرع وأقصر، صمتت لبرهة: سامحني أيها السائل، أوقفتك في برد هذا الليل، تفضل القميص.
مدّت يدها بالقميص، ومدّ إيريس يديه والحقد يغلي فيهما، حين التقط القميص من يد العجوز استحالت أطرف أصابعه رماداً وسقط القميص على الأرض، سحب إيريس يديه بجنون ونظر إليهما وهو يرتجف كفراشة غصّ بها حلق اعصار، ذراعاه استحالا رماداً، مرفقاه، كتفاه، وفي لحظات استحال إيريس كلّه لكومة رماد هامدة. الريح الواقفة في أول الزقاق هبت بجنونٍ وحملت رماد إيريس وألقت به في طرف الكون، هناك يتكدّس الحقد والظلم في حفرة سوداء لا قعر لها. لم تحرّك الريح قميص الشاب من مكانه، بقي كما هو لحظة وقوعه.
تعليقات