من نقطةٍ بيضاء في وسط الجبين ..
من نقطةٍ بيضاء ينبعث الجنين ...
-------------------------------------------------------------------
- في البدء، كان الحمام ملوّناً، وحين وقعت المعركة بين الملائكة والشياطين في أعلى الجبل، كانت الشياطين تنفخ من أفواهها زوابع من لهبٍ نتن، حاول الحمام الوصول للقمة فلم يستطع، احترقت اجنحته وبدأ يتجمع في سفح الوادي، كان الحمام يائساً تتغير ألوانه كل لحظة، جلست حمامة حكيمة وجريحة في بداية الطريق وبدأت تهدل بكلام أشبه للنشيج، بدأت القلوب بالخفقان مرة أخرى، وبدأ الحمام بصعود الجبل جماعة واحدة، كان يخفض رأسه حتى كأنّ نواصيه تكنس الطريق الملتوي في صعوده للجبل، ظل يمشي لأيام بأرجله النحيلة المرتعشة، وكانت الألوان تذوب عن ريشه كلما أوغل في المشي، فمن هنا وُلد هذا الطريق الملوّن والملتوي الذي يأخذك لقمة الجبل، ومن هنا عرفت الخليقة الحمام الأبيض لأوّل مرة في تاريخها. وحيث جلست الحمامة الحكيمة، لا زال التائهون مثلك يولدون منذ الأزل.
هكذا قطع الرجل المسنّ تأملاتي وأنا أحاول استجماع أنفاسي، الطريق الملتوية إلى أعلى الجبل لا تنتهي، وأظنني بدأت الصعود منذ يومين أو ثلاثة، ولتعبي فقدت الإحساس بالوقت، فالوقت ترفٌ نفقده حين ينهشنا الضياع والتعب. كان هذا الرجل الذي يختبئ وجهه تحت شعر ولحية طويلين وغليظين، يجلس متربعا على صخرة ملساء واضعا يديه في حجره، لا أدري كيف لم ألحظه فقد كنت أنظر لقعر الوادي السحيق أتأمل في خيط الحمام الأبيض الذي يصعد الجبل، ما شدّني بحق لهذا الرجل هو نقطة الضوء الصافية وسط جبهته، كانت ساطعة وكأن العالم بنجومه وشموسه انبثق منها، أما أنا فقد كانت نقطة ضوئي باهتة تخبو وتسطع بين فترة وأخرى! مشيت نحوه وأنا أجرّ قدميّ من التعب فربّما أجد لديه الإجابات التي جعلتني أصعد هذا الجبل المجنون، فالقلق والحيرة لا يرحمان حين تحاصرك الأسئلة في زاوية الجهل والخوف.
جلست عند صخرته كفراشة يتيمة تائهة، كانت نقطة الضوء في جبتهي أقرب للإنطفاء منها للسطوع، سألته وأنا أستجدي الصوت من حنجرتي: ولماذا لا يزال الحمام يصعد الحبل مشياً وقد انتهت المعركة وماتت الشياطين؟
ابتسم بطول لحظات صامتة، ثم أردف: في اللون مناورة للحق ومهادنة للضياع، الأبيض فقط هو طريق الانعتاق والخروج من اللِبس، حين استحال الحمام للبياض رأى في البياض كينونته وخروجه من التيه، لهذا نذر نفسه لهذا الحجّ كل عام، أربعين يوماً يحجّ ماشيا لقمة الجبل، وحين يصل يتمرّغ بأجنحة الملائكة التي ما زالت مكانها نديّة منذ المعركة ليومنا هذا، ويطير بعدها راجعا لموطنه. ثمّة بعض الحمائم التي خافت أن تصعد الجبل، وبقيت في قعر الوادي تتمرغ في الطين وتضرب الصخور بمنقارها حسرة، بقيت في غربتها حتى تغير لونها للسواد وأصبحت غربانا، فمن غربتها وُلدت الغربان يا بني، هل ترى كيف أن نفس المكان الذي أنجب بياض الحمام، أنجب سواد الغربان وأنهما ينحدران من مصبّ واحد. والحق أن البياض ينبع من نواحي هذا الجبل المقدّس، أما السواد فلا شيء سوى انعدام البياض،فحين تخلق النور يصبح للظلام معنى.
اشتدّت نقطة الضوء في جبتهي قليلا، كنت قبل هذا اليوم أنفر من كلمة "مقدّس" وأراها أقرب للدنس منها لأي شيء، فأنا ترسم أبعادي خلايا جسدي وما يملؤها من عصبونات الألم والراحة، أما ما عدا ذلك فكذبة توحّد شعور المريدين البُلَهاء، هكذا كنت أظن حتى وجدت نفسي فجأة ذات زمن ما أخرج من عند صخرة الحمامة الحكيمة! يا إله السماوات، وإله هذا الجبل، وإله الحمام والغربان، ما قصة ولادتي القهرية في جبلك المقدّس هذا؟ ولماذا نقطة الضوء تشتدّ أكثر؟ اندفعت أساله بشغف واللهفة تعلقني من رجلي وتلهو بي كطفل: ماذا حصل في أعلى الجبل؟ هل كنت شاهداً على ما جرى؟
- إحذر عفاريت اللهفة، واحذر الطريق الذي يأخذه إليك حماسك! أنت تعلم أن المعركة حدثت منذ أكثر من 1300 سنة، فكيف أشهدها؟ لكن نعم! فأنا وأنت شهود على معركة لم تزل قائمة! يا بني، الموت لم يحسم معركة قط. كانت الشياطين تنفخ نيرانها في أجنحة الملائكة، وحين تسقط تحتوشها الآلاف بجنون. أحد الملائكة قطعوا جناحه الأيمن فاستمر بالطيران بجناح واحد وهو يستميت في القتال، وحين قطعو جناحه الآخر استمر يقاتلهم دون أجنحة، كل الملائكة تموت حين تفقد أجنحتها إلا هو.
نظرت إليه، وكانت روحي تخرج من جسدي وتحلق معه في تفاصيل المعركة، سألته والدهشة تمتلكني: صف لي هذه الشياطين؟ هل هي ضخمة؟
- يا بني، الشياطين كما هي الشياطين.
- لم أفهم! ارحم لهفتي أيها الشيخ الوقور، فأنت ترى نقطة الضوء في جبهتي تخبو مرة أخرى، وهذا الجبل المقدّس هو ملاذي الأخير، فإذا لم تضئ نقطة الضوء مرة أخرى فأنا هالك لا محالة. فمن حيث أتيت، لا يخرجنا من غيبوبة الرتابة إلا ولادة قسرية كتلك التي حدثت لي عند صخرة الحمامة الحكيمة! وأصدقك القول، لا أعلم كيف وُلدت هنا! آخر ما أتذكره أن لديّ اجتماع عمل في التاسعة، وأتذكر أني كنت أرتب الأوراق استعدادا لهذا الاجتماع المهم، و...و... وأتذكر أني تجاهلت اتصالات زوجتي خمس مرات، كم هي لحوحة هذه المرأة! وتفاصيل أخرى، لكني لا أذكر كيف وُلدت هنا.
نظر الشيخ إلي مبتسما، وسألني: كم كانت الساعة حينها؟
استبشرت ولم استطع ان احبس ابتسامة جارفة، أخيراً لحظة يقين في وسط الجنون والشك هذا، كانت الساعة تشير للتاسعة صباحاً إلا خمس دقائق، ورفعت يدي لأنظر لساعتي بعد أن أحسست بها حول معصمي، كانت الساعة تشير للتاسعة صباحاً إلا خمس دقائق، وعقرب الثواني متجمدّ مكانه لا تحرك! وعدت أهوي في بئر الشك مرة أخرى.
ابتسم الشيخ الوقور وأكمل حديثه: ليس للوقت معنى هنا يا بني، هذا الكمّ لا يأتي لاحقه إلا بفناء سابقه، وهو هنا ليس متصلاً حتى! وهو هنا لا يفنى، هوّن عليك وعش هذه اللحظة بتمامها! أنت لم تعش طيلة عمرك لحظة واحدة كاملة. انت استيقظت من حلم الحياة بولادتك عند صخرة الحمامة الحكيمة، خيط الأفكار ونوبات القلق وضباع الخوف والطمع التي تحكم حياتك كل يوم، كلها حلمٌ ينتهي هنا، تأمّل روحك تستيقظ للمرة الأولى وعش اللحظة كاملة. ليس هناك ماضٍ يطاردك ولا مستقبل يقلقك، في هذا الجبل المقدّس، ثمّة هذه اللحظة ولا شيء سواها! ليس ثمة من أشياء تحتفي بها بغباء، ولا وهمٌ مقدّس يدخلك في نعاسٍ تظنّه روحياً، ثمة لحظةٌ ولحظةٌ فقط. قبل استيقاظ روحك، كانت الأفكار تأكل رأسك، أدمنت خيط الأفكار المتكررة والرتيبة وعلّقت حياتك به، كانت الأفكار تلبسك وتخلعك، وفي هذه اللحظة ستستطيع أن تخلع عنك الأفكار لتبقى أنت وهذه اللحظة، وحينها فقط ستسطع نقطة الضوء في جبينك.
- وماذا عن عن هذا الجبل المقدس؟ وماذا عن الشياطين؟ أليست ضخمة شريرة؟
- سأوضح لك، الشياطين ليست تلك المخلوقات ذات القرنين والذيل الذي يتحرّك كأفعى، وهي لا تحمل حراباً مثلثة الرأس كما تظن، الشياطين تلتبس في كل ما حولك، وربما صرت أنت إحداها. أنت تراها بحجم ما تراها، لهذا حين تصعد قمة الجبل، سترى المعركة بطريقة تختلف عن غيرك، فهذه المعركة حدثت بعدد أنفاس من عبروا هذا الطريق صاعدين طلباً للسكينة، وحدثت بعدد نبضات الحمام الذي يحجّ كل عام. يا بني، هل تدري أين أنت؟
نظرت إليه مشدوهاً، حين بدأت المسير لم أسأل نفسي أين أنا أو كيف وصلت إلى هنا، آخر ما أذكره أني كنت بين اليقظة والنوم، رأيت البعض ممن بدءوا حجهم بالصعود لقمة الجبل وهم أخبروني كل ما أعرف، كيف لي أن أعرف ما هو صحيح وما هو غير ذلك؟ ربما سيهزأ هذا الغريب بي حين يعلم أني تائه تماما، ولكني تعبت من الكذب، ولن أكذب في حضرة هذا الجبل المقدس.
نظرت للأرض منكسرا وأجبته: الحق أخبرك، لا أعلم. أنا ضائع تماما.
ابتسم وهو يرفع عصاه للسماء وصاح: يا بني، أن تقرّ بجهلك فذلك أول العلم، وأن تثق بقلبك حين تغدر بك الحواس فذلك دليلك، ولهذا كان حقاً على هذا الحج أن يخرجك من تيهك.
انتهى الشيخ من صيحته والعصا تهتز في السماء، وهوى بها إلى الأرض، فخرج من نقطة ارتطامها بالأرض نبع ضوء غامر انطلق مباشرة لنقطة الضوء وسط جبيني، رأيت حياتي في ومضة ضوء، رأيتني في ومضة أخرى، ورأيت كل الكون في ومضة ثالثة، وتتالت الومضات والضوء يغمر روحي، من أين للضوء كل هذه الطهارة؟ وأين يخبئ الضوء كل هذه الحقيقة ونحن الذين نحسبه مفضوحا أمامنا؟
استعدت توازني، ونظرت حولي، فإذا هو مكتبي، وكل شيء ساكن لا يتحرك!
تعليقات