التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القصة القصيرة وقماش الأسطورة


«ظل» تطرح كل الأسئلة النقدية الممكنة على السرد..
في البدء يجب أن أشير إلى أهمية إصدار المجموعات المختارة، وإن كانت مجموعات من قصص قدمت لمسابقة وطنية قامت بها جهة أهلية في البحرين هي متكأ، وفي الكتاب الحامل لعنوان موحٍ (ظل) وهو عنوان القصة الفائزة بالمركز الأول، وقد حوى الكتاب على 35 قصة مشاركة في المسابقة من بين 120 عملا ومن بينها القصص الفائزة بالمراكز العشرة الأولى، وحسنا فعلت الجماعة بطباعة هذه القصص التي رأت لجنة التحكيم بأنها تصلح للنشر.
وتبدو لنا المجموعة وكأنها تطرح كل الأسئلة النقدية الممكنة على السرد بشكل عام وعلى القصة القصيرة بشكل خاص، فمن المشكلات التي يمكن معالجتها هي مدى ضرورة الكتابة باللهجة العامية في الحوار، الأمر الذي يعكس شخصيات لا يمكن لحوار متقدم في الفصحى أن يعكس طبيعة تكوينها أو مدى مشروعية تلك الإحالات الدلالية في القصة القصية التي يصعب الوصول إلى مغزاها، ومدى قدرة القصة القصيرة على أن تحتمل أكثر من حدث في جنباتها… إلخ من تلك الأسئلة التي تتناسل.
وفي إشارة للعلاقة التي تقوم بين السرد باعتباره يشتغل في مادة اللغة والحياة الاجتماعية التي يفترض الناقد أنها تقوم عند المبدع على اعتبارها نقطة البدء المغايرة لما يبدأ به القارئ الذي يفترض أنه يبدأ بالنص، كما تظهر لنا الأسماء الأجنبية في القص العربي التي يلجأ إليها كثير من الكتّاب في تجاربهم الأولى، ويظهر التساؤل عن علاقة تلك الأسماء بالحياة الاجتماعية، ولعل القصة الوحيدة التي بررت ذلك الاستخدام فنياً هي قصة «عشر ساعات نحو الجنوب» ليثرب العالي، بينما كانت هناك استخدامات لكلمات فصيحة في غير سياقاتها كما يلاحظ القارئ.
وفي تأمل لتراثنا السردي نرى تلك القدرة العجيبة على خلق الكائنات من المردة والشياطين والجن والعفاريت وسائر الكائنات السحرية أو المسحورة، ودخول ذلك السرد في العجائبي والغرائبي حتى فيما يتعلق بالرحلة كما فعل السندباد وغيره من المغامرين، ويبدو أن علاقتنا بذلك التراث لم تثر فينا كثيرا من الخلق المعتمد على المخيلة الحرة التي تذهب وحدها نحو إقامة ما يشبه السرد الأسطوري أو إقامة عوالم سحرية، على الرغم من أن هناك من اعتمد في الكتابة الإبداعية على منبع الأحلام باعتباره منفذا للدخول في ذلك العالم العجائبي والقائم على الغرائب من الأشياء والأحداث.

سلم الحكاية

تقوم الحكاية على وجود طاغية اسمه إيريس، لم تقم الريح في وقته بحمل صوت حربش ابن إيريس وهو ينازع مناديا أباه، يغضب الطاغية ويطلب من الشيطان أن يجعله سيدا على الغضب وحاكما على جزيرة صغيرة، ثم إن الريح حملت قميص حربش وألقته أمام إيريس وهربت، فأقام لابنه العزاء، وكان الرعب يأكل السكان فلم يستطع أحد أن يعزيه؛ إذ إن مجرد فعل ذلك سيسبب كارثة على من ينطق أي كلمة، ثم يدلهم شيخ على أن يدخلوا متفرقين ويقولوا كلاما مختلفا لعله يشفي بعض غليل حقد إيريس.
ثم إن خمسة شبان حاولوا بليلٍ الخروج من الجزيرة سباحة هرباً لعالم أفضل، فسمعتهم جنود الظلام وهاجمتهم الخفافيش تمص دماءهم وتخدش وجوههم، وقد حُمل أحد الشبان القتلى إلى أمه، بينما كان لا بد لإيريس أن يرى تلك اللحظة التي رأت فيها الأم ابنها القتيل، وقد ظن أنه ربما قالت أم الشاب القتيل بضع كلمات منكسرة لكن الريح لم تنقلها إليه.
تنكر إيريس في صورة متسول عجوز وطرق باب بيت أم الشاب القتيل طالبا الحاجة والستر من البرد فتعطيه قميص ابنها القتيل، بينما طاش إيريس نتيجة لوقار الأم وإيمانها العميق بأن روح ابنها ستغتسل بالطهر والسكينة، وعندما مد إيريس يديه ليلتقط القميص سقط على الأرض بعد أن تحولت يدا إيريس إلى غبار، وذاب فحملته الريح وألقت برماده في حفرة سوداء لا قعر لها، أما القميص فحملته الريح إلى مكان مجهول، بينما ظل الناس يهمسون أنها نشرته عند باب الخلود.

رموز تصطف

يأخذ إبراهيم خليل الشاخوري في قصته (يوم خانتنا الريح) عناصر ربما تنتمي بعضها إلى الميثولوجيا اليونانية التي تذهب نحو اعتبار إيريس، التي تعتبر آلهة الشقاق والاختلاف والحسد والغيرة، وهي أخت إله الحرب اليوناني آريز الذي كان رفيقاه الخوف والرعب، بطلاً للقصة، ولعل هذا الانحراف بالاسم من خلال جعله اسما يستخدم في القصة بشكل مذكر يذهب نحو توظيف يجله باعتباره بطلاً للقصة يحمل الحقد الذي يتآكله، كما يؤكد ذلك الانزياح لعب الريح دورا في عملية السرد باعتبارها حاملة للأصوات وسيدة للضوضاء ورسولاً لكل الأصوات، ثم دخول اسم حربش، وهو اسم للأفعى، على الخط كابن فانٍ للطاغية إيريس الذي لجأ بعد موت ابنه للشيطان الذي منحه سيادة الغضب ونصب نفسه إلهاً.
«حين وزعت الملائكة الأقاليم السبعة لم يحصل إيريس على شيء، فغضب بسبب ذلك ولجأ للشيطان الذي منحه سيادة (الغضب)، وبهذه القوة نصّب نفسه إلهاً وأعلن أن ذاته مقدسة لا تطال».
ثم يقوم الصراع بين هذا الطاغية الذي يمثل الشر المطلق مع الطيبة المطلقة التي تمثل الخير في أم الابن المقتول؛ حيث تنتصر طيبتها على شر إيريس المطلق، وبهذا تقوم الحكاية على الدراما التي يقودها صراع الخير المطلق مع الشر المطلق، وانتصار الخير هو تعبير عن استمرار الطيبة والنقاء وكل القيم العليا في داخل المجتمع.
كما أن تلك الصراعية ترتفع كلما حاول إيريس إشعال حزن المرأة الثكلى من أجل أن يتلذذ بآلامها وأوجاعها عله يظفر منها بزلة لسان من أجل إنزال أشد العقاب بها تخلصا من تلك الطيبة التي تفيض على روحه التي لا تقبل نقيضها حتى تلتهم ذاتها وتسقط غبارا تذروه الرياح، ولعل الكناية عن الحفرة العميقة هو في نهاية المطاف عدم غياب الشر من العالم ولكنه قابع هناك في تلك الحفرة المظلمة من الذات البشرية التي ينطلق منها دون أن ندرك وجوده.
* كاتب وناقد بحريني

التعليقات (0):
© جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الشرق للأعلى

http://m.alsharq.net.sa/2014/04/02/1112756

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كوميديا دانتية و"لمبو" برائحة الكذب

* مقال نشرته 2005 صدرت للمرة الأولى الترجمة العربية الشعرية الكاملة لكتاب الكوميديا الإلهية، للشاعر الإيطالي دانتي الليغييري عن منشورات المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" في باريس والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. ونفذ الترجمة الشاعر والناقد العراقي-الفرنسي الجنسية- كاظم جهاد عن النص الأصلي الإيطالي وعن العديد من الترجمات الفرنسية لنص الكوميديا الإلهية المؤلف من 14233 بيتا شعريا موزعا على مقاطع ثلاثية ومجموعة في 100 نشيد قسمت إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم والمطهر والجنة. وألحقت الترجمة بمئات الحواشي والشروح، كما ضمت مقدمة طويلة للمترجم تعتبر دراسة مستقلة بحد ذاتها.ويشدد كاظم جهاد في مقدمته على أن العالم العربي والإسلامي ليسا غريبين على الكوميديا الإلهية حتى وإن كان دانتي ينتمي للديانة المسيحية. ويشير إلى أنه كثيرا ما جرى ذكر التأثير العربي في الكوميديا الإلهية كما ينقل عن المؤرخين ذكرهم تردد دانتي على حلقة دراسات لتلامذة الفيلسوف ابن رشد. ويتجه أليكسي جورافسكي في كتابه (الإسلام والمسيحية) للحديث عن تأثير الإسلام في أوروبا ف

أدبيات التغيير ... ثنائية العربة والحصان

* مقال نشرته في يونيو ٢٠٠٥ الحديث عن التغيير أحيانا كثيرة لا يكون سوى تغييرا للحديث، لأننا تعودنا الرتابة في حياتنا وفي أشياء كثيرة مما نفعل، ترانا أحيانا ما نلجأ للحديث عن التغيير وضرورته وآلياته واستراتيجياته دون أن نتغير نحن، بل ونستمر في الحديث دون أن يتغير أي شيء .  تغص مجتمعاتنا على امتداد أيام وحقب بالكثير من الحديث والشعارات حول ضرورة التغيير وحول الوعود ثم الوعود بالتغيير، وحين تغص حناجر البسطاء بكل سفاسف الكلام، وحين تصل المجتمعات حدّ التخمة، تبدأ شرارات الانفجار بالاشتعال، وبذور الثورة بالنمو لنفرغ عبرها كل أحلام التغيير ونصب عبرها كل حمم السخط من الواقع الرتيب والمعاش، بكثير من اللاوعي بل وقد يجذبنا التيار نحو مراسي الشوفينية لنبدأ بالانغلاق والانكفاء على الذات من جديد، لتبدأ بعدها عوامل الهرم والتكلس الفكري بفرض رتابة جديدة، وهكذا تبدأ الدورة لتعود من جديد .  تصاحب عادة حركات التغيير جرعة من الأدبيات التي تجيء متوائمة مع كل الوعود بالتغيير بل وتدفع بالناس للحلم بما هو أبعد من ذلك، في علاقة هي أشبه بعلاقة العربة والحصان، فكثيرا ما تجد الثورة حصانا جامحا يجر من وراءه كل

هكذا قرأت أمريكا

* كتبت هذا المقال في مارس ٢٠٠٥ وقد لا اتفق مع بعض تفاصيله الآن لكن أورده كما هو ....  حين قررت الذهاب في دورة مكثفة لدراسة ما يسمى ( بأمريكا ) لم أكن أعرف نهاية الطريق في هذه الرحلة ، و حاولت جاهدا و أنا أسمح لمركبي أن يمشي مع التيار أحيانا أن لا أفقد الاحساس بالاتجهاهات ، و حين أدعي أني كالبوصلة المفتوحة على جميع الاتجهاهات فهذا يعني أن عقلي معطل ، فالبوصلة التي تشير لكل الاتجهات بوصلة معطلة . هي محاولة للقراءة في شيء معقد و فعل القراءة هو أسمى فعل بشري .  ( اقرأ ) ، كانت أول كلمة تفوه بها الوحي و ظلت ترن في أطراف الجزيرة العربية منذ قيلت لليوم، و سبحان الله فكأنما كانت أول كلمة يتنزل بها الوحي تعطي مفاتيح الدنيا لمن يفتح قلبه و عقله لها . فمن لا يقرأ ليس حيا في هذه الدنيا ، و من لا يقرأ ليس مسلما حتى ، و كيف يكون مسلما وهو يعصي الله ( عز و جل ) في أول أمر يبلغه نبيه ؟ ثم ألا يستوعب الإنسان مقام هذا الأمر الإلهي حتى يستفتح به الله كلامه في أعظم معجزة و لأعظم بشر عرفه التأريخ ؟ و من هو في عظمة محمد ( ص ) يسشترف مسيرة النبوة الخاتمة باستقبال أول تكليف من رب العزة ( بالقراءة ) ، و