لم تكن طفولة خليل حاوي لتختلف عن طفولة العديد من أطفال لبنان الذين خرجوا من رحم الحرمان والفقر إلى عالم تكسرت فيه كل الأحلام الوردية، فالطفل الذي مرض والده لم تمنحه الدنيا سوى خيار العمل بنّاءا لتتصدّق عليه بما يسدّ رمقه. ولكن خليل الطفل استطاع بذكاءه أن يعلّم نفسه العربية والانجليزية والفرنسية، ثم ليتخرج من الجامعة بامتياز ليحصل بعدهاعلى منحة حصل بها على الدكتوراة من جامعة "كامبردج"، وعاد حاوي وعادت الدنيا لتكون أكثر قساوة على لبنان، فالدكتور والشاعر الذي استطاع أن يضيف على الشعر العربي لمسة تظل حاضرة، خبأت له الدنيا أقسى ما عندها.
فالرجل الذي عاصر عام النكبة وحرب حزيران وبعدها حرب رمضان، ربما استطاع أن يتحمل احتلال جزء من جنوب لبنان فيما عرف بعملية الليطاني في 1978، لكنه اختار أن ينتحر حين وصل الجيش "الإسرائيلي" حدود بيروت في 1982. وعموما فإن انتحار خليل حاوي لم يكنعنوانا يتيما في صحيفة التاريخ العربي، فالعديد من الكتاب والمثقفين وحتى المفكرين العربانتحروا فعليا بعد حرب حزيران. ويعتقد البعض أن الفكر الثوري انكسر على صخرة حزيران واستحال حطامه فكرا ذليلا يدعو لوهم سمّاه "السلام". وحتى البقايا التي استطاعت أن تنجو بجلدها لم تستطع تجاوز منعطف حرب رمضان، ليُصاب الجزء الأكبر منها في مقتل. وعموما، لو قدّر لحاوي أن يعيش حياة أخرى فإنه ربما سيقرر الموت وهو يرى العديد من المحسوبين على الثقافة العربية وهم ينضمون زرافات لخيار الانكسار.
بماذا يختلف انتحار حاوي عن انتحار محمد البوعزيزي؟ برأيي، لم يختلف المثقف والأديب العربي عن غيره من بسطاء الشعب العربي في ردود أفعاله في دوامة الصراعات، فعلى امتداد الأزمات والنزاعات العربية، سجل المثقف والأديب العربي كل الاحتمالات التي يمكن أن تخطر على البال، بل وفاق الشارع في بعضها بامتياز، فشكل عبر خيارات ثلاثة نموذجا ثلاثي الأبعاد لحضور المثقف العربي في الساحة.
بدءاً بخيار الانتحار كخليل حاوي عشية اجتياح بيروت في مطلع الثمانينات والذي تطرق إليه محمد جابر الأنصاري في كتابه "انتحار المثقفين العرب"، وهو بالرغم ما قيل فيه من أنه "فعل احتجاج ثقافي وابداعي كبير" كما عبر بعض المثقفين"، إلا أنه يشكل قمة الهروب من المهانة التي لم يستطع تحملها.
يأتي الخيار الثاني خيار الانكسار، وهو ما يتجلى في الدعوات المتكررة لمهادنة العدو الصهيوني، بل و سعى البعض لزيارة تل أبيب لأكثر من 15 مرة كما فعل علي سالم، صاحب العمل المعروف "مدرسة المشاغبين"، انكسار أوغل فيه حتى قررت تل أبيب منحه دكتوراة فخرية لتميزه! وهو خيار نجد اليوم بين صفوف المثقفين من لا يجد حياءا في المجاهرة به، برغم كل الدم الذي يسفك والأبرياء الذين يموتون. وأمام انكسار الذات ينكسر كل شيء آخر، ويتوالد من تحت عباءة هذا الانكسار فريق كامل كتّاب "الكراهية" والحقد والطائفية.
الخيار الأخير هو خيار الانتصار للأمة والوطنية والعقيدة والقيم، وهو الخيار الذي يجب أن يتعدى كل الزوايا الطائفية والمزايدات الوطنية، خيار دفع الكثير من الأدباء والمثقفين للكتابة بروح من العزة والثبات ما يحرك في شعوبنا العربية الإحساس القوي بالقيمة الإنسانية التي نحملها، ويجعلنا نحمل شيئا من التفائل تجاه الغد، وهو عينه ما يذكرنا بقصيدة محمد علي شمس الدين في (السيد الجنوب) :
يمشي على الموتِ تيّاهاً كأنّ به من الألوهةِ شيئاً ليس يُخفيهِ
يمشي الهوينا وقتلاهُ تمجّدُهُ كأنما كلُّ ما يُردْيهِ يُحْييــهِ
تعليقات