"صبر أيوب" هو أشهر صبرٍ تداوله الناس، فالنبي أيوب "عليه وعلى نبينا السلام" ذاق من التعب والعناء وعانى من موت أبنائه وفقدان الجاه والنعمة ونبذ الناس، ولكنه كان صابرا محتسبا، بل ومقام النبوة جعله يترفع عن مرتبة الصبر إلى مرتبة الشكر والحمد، فكان كلما ألحّت عليه زوجته أن يدعو الله ليخلصه مما نزل به من بلاء، وهو نبي مستجاب الدعوة، ردّ عليها بأني أستحي من ربي، فقد عشت من النعيم عقودا طويلة فهل يضيق صدري بسنين معدودة من الامتحان؟
وعموما فإن الصبر أو "العزم" هو ما رفع بعض الأنبياء فوق بعض درجات، فكان تاج النبوة أولئك الأنبياء أولي العزم الذي قطعوا في مراتب الصبر أكثر من غيرهم مسافة، وكان أصبر الخلق وأشرفهم نبينا محمد "ص" دون ريب، وهكذا كان "صبر أيوب" عبرة بالغة في ديوان البوة، ولكن ثمة تفصيل غاب في قصة النبي أيوب "ع" لسبب أو لآخر، وبسببه أخذت المرأة موقعا هامشيا في القصة والعبرة رغم كونها المحور في قصة النبي أيوب "ع".
صحيح أن النبي أيوب "ع" كان هو المبتلى، ولكن زوجته شاطرته من التعب والعناء ما لا يحتمله بشر. النبي أيوب "ع" يسكن في ديوان النبوة، وروحه تترافع عن هذا العالم السفلي حيث يعيش العشق المنقطع تماما لخالقه، فالله عز وجل هو الفلك الذي كانت تدور حوله خلجات وسكنات وحركات النبي أيوب، ومقام النبوة جعل من أشد الصعاب نفحات قرّبت النبي أيوب "ع" لمعشوقه الأوحد، ربّ العالمين. أما زوجته فكانت "أنثى" نراها "ناقصة عقل ودين" تحركها مشاعرها كيفما شائت وتتحكم فيها الظنون وتفتقر لصلابة وشدة الرجال ولا تحتمل أبداً الصعاب والتحديات، زوجة النبي أيوب "ع" وردةٌ رقيقةٌ لا تتحمل عواصف المحن والفتن الشديدة، ونتوهم أنها تستحق منا تعاطفا وربما دمعة شفقة لا أكثر، وكل ذلك صفات لازمة لتاء التأنيث بالفطرة، لا جديد فيها يُذكر ولا قديم يُعاد.
لكن الواقع يخبرنا أن زوجة النبي أيوب "ع" كانت أنثى بألف رجل، فما عانته وواجهته كان يحتاج إرادة تفتّ عضد الجبال، فزوجة صاحب الجاه الذي امتحنه الله بفقد أمواله وأولاده لم تترفع أن تعمل خادمة أجيرة من أجل أن تعيل زوجها المريض والمبعد عن الناس، بل واستبد الشيطان بأهل قريتها فطردوها بحجة أنها قد تنقل إليهم الأمراض والأوبئة، فلم تجد مفرا من أن تبيع ضفائرها لتطعم زوجها، وابتلاها الله كما ابتلى النبي أيوب "ع" فأرسل اليها الشيطان في صورة رجل وعرض عليها شاة ووعدها بشفاء زوجها شريطة أن لا تسمي على الشاة حين تذبحها، وحين صارحت زوجها في لحظة شفقة منها عليه أن تفعل ذلك غضب منها ونهرها وأبعدها عنه، وكانت تلك لحظة مفصلية في حياة النبي أيوب حيث شاء الله أن يرفع عنه ابتلاءه ويعيد له عافيته وصحته.
في تلك الأثناء كانت تلك المرأة تجر أذيالها عائدة لبيتها، لم تكن سعيدة لأنها تخلصت من ذلك الزوج الذي يرفض أن يدعو الله ليخلصه من بلاءه، لم تقرر أنهما "ما يصلحون لبعض" وعليهما أن يأخذا طريقا آخر، لم تصب بصدمة عاطفية تدفعها لفتح الباب لأول علاقة غرامية في الطريق لأن زوجها كان ناكرا للجميل، فبدل شكرها على اقتراحها غضب منها، لم تفعل أي شيئ من هذا كله، رقّ قلبها لأيوب، ذلك الجسد الذي أنهكه المرض وأخذت منه الدنيا كل جميل، رقت على أيوب الطريد الوحيد الذي ليس له من يعتني به، فرجعت له تحمل في كفيها كل حنان ومحبة وعطف.
حين عادت، لم يكن النبي أيوب "ع" موجودا، بدأ القلق يأكل روحها المتعبة، فأيوب لا يقوى على الحركة ولا يستطيع أن يخطو بضع خطوات حتى، فأين ذهب؟ بدأت الأفكار تأكل رأسها الصغير، وأخذ القلق يلتهم حواسها، وعندها رأت رجلا بكامل صحته وقوته يقترب منها، سألته على عجل "هل رأيت نبي الله أيوب؟" سألها "وكيف يكون؟" قالت"شيخ لم يترك المرض فيه من بقية، ولكنه يوم كان شابا، كان يشبهك!" ابتسم وأجابها "أنا أيوب".
بعد كل هذا الصبر لهذه الإنسانة المؤمنة، أعدنا القصة مرات ومرات ولم نوفها حقها، بل وصرنا نردد على مسامع كل امرأة مع أول خطأ أو زلة "يا صبر أيوب على بلواه"، والأولى أن تصيح بنا كل نساء العالم "يا صبر زوجة أيوب على بلواها"، فهي الإنسانة البسيطة والتي لم تكن "نبية" أو "مرسلة" وصلت لدرجات رفيعة في الصبر. والحق أنها لم تصل لمرتبة النبوة التي نالها أيوب بصبره وجهاده، ولكنها شاركته حياته وكانت قدوة في الصبر والتضحية والإيثار، وحق لنساء العالم أن يفتخرن كلما مرّ ذكر "صبر أيوب" أن صبرهن كان من صبر أيوب.
لا أعلم تحديدا لماذا سقطت تاء التأنيث عن كثير من جوانب سيرة النبي "أيوب" وسير أخرى، والحق أن في سير الأنبياء من تاء التأنيث ما يثبت أن المرأة كانت على درجات من الكمال تنافس الرجل، فزوجة النبي أيوب "ع" فاقت مئات الرجال من قريته ممن خضعوا للشيطان بل وتواطئوا مع الشيطان فكانوا سببا في عذاب وتعب نبي من أنبياء الله! امرأة سمت وتألقت في الاختبار، ورسب وتهاوى حولها العديد من الرجال، وبمثل هذا ثمة العديد من السير والعبر التي تنتظر من يبرز تاء التأنيث فيها، كلها تقف بارزة أمامنا تنتظر لحظة استنطاق.
تعليقات