التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تعرف فلان؟

 

إحدى طرق كسر الجليد عند محادثة غريب في المجتمع البحريني إذا لم تكن الطريقة الوحيدة- يمكن اختصارها في سؤالين، الأول "من أي ديرة أنت؟" والثاني "تعرف فلان؟"، وبعدها يبدأ السائل في سرد تاريخ علاقته بفلان وكيف أنه يعرفه معرفة لصيقة ويسرد الطرائف التي حصلت بينهما، وكل شيء عنه. لماذا؟ لسبب واحد فقط هو أنك من نفس الديرة التي يسكن فيها فلان! والأغرب من هذا أنك حين تجيبه بأنك لا تعرف فلان، يبدأ بإعطائك الأدلة التي يجب أن تقودك لفلان، فهو "يشتغل في ألبا" و"يسكن في الفريق الذي بقرب المقبرة" و"عنده سيارة ماكسيما"، وأحيانا كثيرة ما نضطر للتخفيف من احراج الموقف بالقول "بلى، كأني عرفته".

صحيح أن البحرين صغيرة، وأن الحديث مع غريب لخمس دقائق قد يقود لنسب بعيد بينكم، فاحتمال أن يكون الغريب الذي تحدثه "أخو زوجة ولد خالك" احتمال قوي إذا لم يكن أكيد، وأنا لا استند على إحصائيات لكن التجارب تدل على أننا في البحرين عائلة واحدة، فالفواصل التي تفصل بين القرى والمدن اندثرت، والبحرين في طريق أن تكون "ديرة واحدة" لا يفصلها سوى "نطة شارع" عن القرية والأخرى، لهذا من الطبيعي أن يولّد هذا التقارب والتداخل الجغرافي ترابطا في القرابة والصلة.

وفي السنّة النبوية، فإن نبي الرحمة "ص" يعتبر من الجفاء أن تلقى الرجل دون أن تسأله عن اسمه ونسبه، ولكن ذلك لا يعني أن تكون جلسة التعارفجلسة نتحول فيها لـ"نسّابة" مع غريبٍ حتى يضيع الوقت بأكمله، فمالذي يجعلني مهتما بمعرفة أصل وفصل "فلان" وتاريخه المهني طيلة العشرين عاماً الماضية لأنني من نفس "الديرة"؟ جميل حقاً أن تعرّفني بكل الأشخاص الذين تعرفهم من "ديرتنا"، ولكن أن يكون هذا محور الحديث لنصف ساعة لينتهي الكلام بقائمة طويلة من "السلامات" التي يجب أن نوصلها، فاعذرني.هل يذكر أحدكم عدد السلامات التي حمله بها غرباء إلى أناس بالكاديعرفهم، فقط لأن الجملة الختامية يجب أن تكون "سلّم على فلان"!

"تعرف فلان؟" بدأت بالانحسار قليلا، صحيح أن الكثير من جيلي ما زال مبرمجا للبدء بهذا السؤال عند الحديث مع الغرباء، لكننا أضفنا أسئلة شبابية لا بد من طرحها، فمثلا يعنينا أن نعرف إذا كان الشاب الذي نتعرف عليه مدريدي أو برشلوني، سؤال يقود لساعة كاملة من الكلام والضحك حول ترتيب الدوري وخطط مورينهو الفاشلة، والانتقالات المتوقعة، وسيطرة "المانشافت" على "البودنس ليغا".

نحتاج لإعادة التفكير في الطريقة التي نحادث فيها الغرباء، فإحدىالدراسات الغربية تقول بأننا نحدد خلال التسعين ثانية الأولى من حديثنا ما إذا كنا سنحب الشخص الذي نحدثه أم لا، فلماذا نضيعها في تحقيقٍ بوليسي حول "فلان" ومعرفتك وروابطك به؟ لماذا لا نبدأ نقاشاً جاداً يكون محوره الشخص الذي أمامنا، بحيث نستطيع أن نفهمه بصورة عميقة؟ حوارٌ يعرّفنا به وبما في داخله، حوارٌ ينتج صداقة ومحبة، فمعرفة الناس كنوز.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كوميديا دانتية و"لمبو" برائحة الكذب

* مقال نشرته 2005 صدرت للمرة الأولى الترجمة العربية الشعرية الكاملة لكتاب الكوميديا الإلهية، للشاعر الإيطالي دانتي الليغييري عن منشورات المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة "اليونسكو" في باريس والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. ونفذ الترجمة الشاعر والناقد العراقي-الفرنسي الجنسية- كاظم جهاد عن النص الأصلي الإيطالي وعن العديد من الترجمات الفرنسية لنص الكوميديا الإلهية المؤلف من 14233 بيتا شعريا موزعا على مقاطع ثلاثية ومجموعة في 100 نشيد قسمت إلى ثلاثة أجزاء: الجحيم والمطهر والجنة. وألحقت الترجمة بمئات الحواشي والشروح، كما ضمت مقدمة طويلة للمترجم تعتبر دراسة مستقلة بحد ذاتها.ويشدد كاظم جهاد في مقدمته على أن العالم العربي والإسلامي ليسا غريبين على الكوميديا الإلهية حتى وإن كان دانتي ينتمي للديانة المسيحية. ويشير إلى أنه كثيرا ما جرى ذكر التأثير العربي في الكوميديا الإلهية كما ينقل عن المؤرخين ذكرهم تردد دانتي على حلقة دراسات لتلامذة الفيلسوف ابن رشد. ويتجه أليكسي جورافسكي في كتابه (الإسلام والمسيحية) للحديث عن تأثير الإسلام في أوروبا ف

أدبيات التغيير ... ثنائية العربة والحصان

* مقال نشرته في يونيو ٢٠٠٥ الحديث عن التغيير أحيانا كثيرة لا يكون سوى تغييرا للحديث، لأننا تعودنا الرتابة في حياتنا وفي أشياء كثيرة مما نفعل، ترانا أحيانا ما نلجأ للحديث عن التغيير وضرورته وآلياته واستراتيجياته دون أن نتغير نحن، بل ونستمر في الحديث دون أن يتغير أي شيء .  تغص مجتمعاتنا على امتداد أيام وحقب بالكثير من الحديث والشعارات حول ضرورة التغيير وحول الوعود ثم الوعود بالتغيير، وحين تغص حناجر البسطاء بكل سفاسف الكلام، وحين تصل المجتمعات حدّ التخمة، تبدأ شرارات الانفجار بالاشتعال، وبذور الثورة بالنمو لنفرغ عبرها كل أحلام التغيير ونصب عبرها كل حمم السخط من الواقع الرتيب والمعاش، بكثير من اللاوعي بل وقد يجذبنا التيار نحو مراسي الشوفينية لنبدأ بالانغلاق والانكفاء على الذات من جديد، لتبدأ بعدها عوامل الهرم والتكلس الفكري بفرض رتابة جديدة، وهكذا تبدأ الدورة لتعود من جديد .  تصاحب عادة حركات التغيير جرعة من الأدبيات التي تجيء متوائمة مع كل الوعود بالتغيير بل وتدفع بالناس للحلم بما هو أبعد من ذلك، في علاقة هي أشبه بعلاقة العربة والحصان، فكثيرا ما تجد الثورة حصانا جامحا يجر من وراءه كل

هكذا قرأت أمريكا

* كتبت هذا المقال في مارس ٢٠٠٥ وقد لا اتفق مع بعض تفاصيله الآن لكن أورده كما هو ....  حين قررت الذهاب في دورة مكثفة لدراسة ما يسمى ( بأمريكا ) لم أكن أعرف نهاية الطريق في هذه الرحلة ، و حاولت جاهدا و أنا أسمح لمركبي أن يمشي مع التيار أحيانا أن لا أفقد الاحساس بالاتجهاهات ، و حين أدعي أني كالبوصلة المفتوحة على جميع الاتجهاهات فهذا يعني أن عقلي معطل ، فالبوصلة التي تشير لكل الاتجهات بوصلة معطلة . هي محاولة للقراءة في شيء معقد و فعل القراءة هو أسمى فعل بشري .  ( اقرأ ) ، كانت أول كلمة تفوه بها الوحي و ظلت ترن في أطراف الجزيرة العربية منذ قيلت لليوم، و سبحان الله فكأنما كانت أول كلمة يتنزل بها الوحي تعطي مفاتيح الدنيا لمن يفتح قلبه و عقله لها . فمن لا يقرأ ليس حيا في هذه الدنيا ، و من لا يقرأ ليس مسلما حتى ، و كيف يكون مسلما وهو يعصي الله ( عز و جل ) في أول أمر يبلغه نبيه ؟ ثم ألا يستوعب الإنسان مقام هذا الأمر الإلهي حتى يستفتح به الله كلامه في أعظم معجزة و لأعظم بشر عرفه التأريخ ؟ و من هو في عظمة محمد ( ص ) يسشترف مسيرة النبوة الخاتمة باستقبال أول تكليف من رب العزة ( بالقراءة ) ، و